مفردات عربية وآيات قرآنية في أشعار الروسي إيفان بونين الروحانية

تقديم وترجمة ناظم مجيد حمود
تتميز أشعار إيفان بونين المنشورة في العقود الأولى من القرن العشرين بجزالة قصائدها المفعمة بالتقوى والخشوع، إن تلك التي نظمها في روسيا أو في منفاه أو إبان رحلاته العديدة والمديدة إلى بلدان الشرق العربي والإسلامي. وفيها يجد قارئ الروسية اقتباسات وفيرة من سور القرآن الكريم، التي تشرح تعاليم الإسلام وشعائره الحنيفة، وتروي سيرة رسوله الكريم وقصص الأنبياء والصالحين وسفر الأقوام والأسباط. ويلتمس ضرباً من التعاطف الباطني العميق مع الإسلام ونبيه، يقترب من الانحياز والمديح والتَّمجيد أحياناً. هذه الاقتباسات، المختارة بعناية من ترجمات معاني القرآن الكريم المنقولة إلى اللغة الروسية أواخر القرن التاسع عشر، أثْرتْ نصوص بونين الشعرية والنثرية، وأضفت على خطابها وموضوعاتها ومعانيها جزالة وحكمةً وبهاءً، وطعّمتها بتوليفات روحانية – إيمانية، ظلت تلازم قصائد بونين المتأخرة وتسري في نسيجها الشعري. بل يقرأ في أشعاره مفردات قُرآنية بلفظها العربي مثل؛ ( الله، الكوثر، الحُطمة، سقر، الجن، جنات، تمجيد، كريم، «الم»، يقطان، ميدان)، بعضها نادر التكرار في السور الكريمة والأدبيات الدينية ( الكوثر، الحُطمة، سقر)، ذات معنى محدد مقصور على بلاغة القرآن الكريم وتحديده لمفهومي الحياة الدنيا والآخرة، بجنتها وجحيمها، وما يتصل بهما من ألفاظ فريدة ونادرة، يحتاج الكشف عنها قراءة متأنية وعميقة لكلام الله وتفاسيره. ومن تلك القصائد الكثيرة، المستوحاة من سجع القُرآن الكريم وعقيدته الإيمانية وقصصه المكرمة وعبره الحكيمة، التي تفيض من روح بهية تزهو بحياة تقية لا تصرف هباءً، وعقل يشع بوهج الفكر النَّير والإبداع الخلاق؛ ( السِّر، لخيانتهم، علامات السَّبيل، السَّراب، تمجيد، محمد وصفية، إبراهيم والحاج)، نعرف بأن الشاعر بونين مال واستظل بهدى القُرآن الكريم، الذي ألمَّ به إلماماً طيباً، واستقى من كلام الله تعالى، ومناقب السيرة النَّبويّة الشَّريفة وتجلياتها، وحياة الأتقياء وحجاج بيت الله الحرام، وما ينبغي أن تكون عليه حياة المسلم التقي وفرائضه ومناسكه الدينية وأعرافه الاجتماعية. يهدي عنوان قصيدة «السر» ولغتها الروحانية وصورها الإيحائية وتصديرها بالآية الكريمة (الم)، فاتحة سور البقرة وآلِ عِمران والعنكبوت والرُّوم ولقمان والسَّجدة، إلى اهتمام بونين بإعجاز وعلم غيب آية (الم). وما هو مهم أن الشاعر دوّن هذه الحروف المكرمة بلفظها العربي الكامل مقطعة (ألف، لام، ميم). وبوحي من مغزى هذه الآية الكريمة، التي تجسد إحدى مُعجزات القُرآن المجيد نظم الشاعر قصيدة السر. ونلتمس في طياتها؛ أن بونين كان مقتنعاً اقتناعاً راسخاً بأن هذه الآية الكريمة (الم)، هي إحدى عجائب كتاب الله الحكيم، الذي قرأه قبيل زيارته الأولى لمدينة إسطنبول عام (1903). وواصل قراءة القرآن والإنجيل حينما كان متوجها إلى الأراضي المقدسة في فلسطين خلال رحلته الثانية عام (1907). ولا ندري هل ثمة رابط بين شغف بونين بقراءة القُرآن الكريم ومأساة هلاك ابنه الوحيد، الذي لم يتجاوز الخمسة أعوام من عمره، الأمر الذي أدخله في حزن عميق وعزلة وتأمل في مغزى الوجود والفناء والوعد والوعيد. وفي (السِّرِ) نقرأ؛ («ألف، لام، ميم؟»، غير أنَّ هذه الرموز غامضة، كالطريق إلى غياهب الآخرة).
في قصيدة «لخيانتهم»، التي صَدّرها الشاعر إيفان بونين بقبس من القرآن الكريم ( اذكروا أولئك، الذين هجروا وطنهم خوفاً من رعب الموت) ، يُحاكي سورتي القيامة والإنسان، وتحذير كتابنا الحكيم أولئك الذين خانوا وطنهم وارتكبوا الإثم الثقيل. ويستعيد فيها بعبرة الواعظ، وهو الماسك بحب الوطن، رغم عناء المنفى وهموم وآلام الغربة والخوف مما يخفيه المستقبل المجهول، الوطن الذي ينأى كلما اقتربت منه الروح المتلهفة إلى أحضانه وناجته الأفئدة المتدفقة بالمشاعر التي تنضح شوقاً وحنيناً، إلى ماضٍ انزوى في زمانه وما غادر مواضعه فحال دون مزج ما فات بما هو آت! وفي هذا يكمن مغزى الأمل الذي تنشده الروح التقية، رغم أصفاد العسر والضَّنك القابضة على فضائها، وإن ألفت صنوف الصبر على بلايا الدنيا ومنغصاتها وجحود من فيها، أحياناً، ممن ارتضوا أن يبدلوا أوطانهم وقيمهم ووجدانهم بنزوة زائلة لا محال «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَومَهُمْ الَّذي يُعَدُونَ». يا لهوانهم وضيق مقامهم وبِئْسَ مهادهم؛ (لأنْهم خانوا الوطن البائس أبادهم ربّهم، وبعظام أجسادهم وجماجمهم بذر الحقول).
ونلتمس، في قصيدة «علامات السَّبيل»، المستوحاة من سفر القُرآن، وحصراً من قصة طرد التقية هاجر وابنها إسماعيل وما أُنزل عليهما من رحمة ربِّ العالمين، سعي الشاعر المُغترب إيفان بونين إلى الاقتراب من فضاء الروح الهادية إلى سواء السبيل. وبلا كلل يرنو إلى الاطمئنان الأبدي في عالم صوفي تقي، تضيئه أنوار الإيمان الحنيف العاكف عن مغريات الدنيا، وشغف وهيام انسها بملذات الغرام واللهو والتطهر من الدنايا والخطايا، وما يدنس الروح الزاهدة ويرميها بعيداً عن صراط الحق؛ ( لِيبعثَ الرَّبُّ علاماتَ الهُدى على الرمالِ، كسالف الزمان، من غَزة إلى العرّيم. سلامٌ عليك، يا خرزات مَسبحةِ الحاج، يا هادية هاجر في الصحراء).
أما في قصائد «السَّراب وتمجيد وإبراهيم» فنجد ومضات مشعة من آيات كريمة من سورتي البقرة والكوثر. ومنها وما تكنزهُ من شواهد وقيم مقدسة نسج الشاعر قصائده. وفيها حافظ بإتقان على معاني كلام الله وقصصه وعبره. وما يثير الدهشة حقاً هو؛ كيف تسنى لشاعر روسي، لا يجيد اللغة العربية ولا اللغتين الفارسية والتركية، أن يستثمر بدقة وبراعة آيات قُرآنية، من غير أن يحيد عن مضامينها وغاياتها، بل وضعها في سياقها الصحيح بين أبياته الشعرية. ولرُّبَّما ستزول هذه الدهشة عندما نعثر على ترجمة معاني القرآن الكريم أو التّفاسير التي استند إليها في اقتباساته المباشرة، وفي تصوره لجوانب أكثر جلاءً من السّيرة النَّبوية. ولا نهمل فرضية أن يكون الشاعر قد استعان بمستعربين أو بفقهاء مسلمين، في روسيا أو أثناء زياراته الكثيرة إلى القسطنطينية، بلغت (13) مرة، في تفسير الآيات الكريمة ومجاراة مدلولها. خصوصاً إذا ما عرفنا أن الاستعراب الروسي والدراسات الإسلامية شهدا، وقتذاك، مرحلة نهوض وارتقاء، وأن المؤسسات الدينية والتعليمية الإسلامية في روسيا كانت نشيطة وتعمل بمرونة.
وتلاحظ زوجة بونين فيرا مورومتسيفا – بونينا، أنَّ إقامة بونين في القسطنطينية لشهرٍ واحدٍ كانت أحد أهم الأحداث المثمرة والشاعرية في حياته الروحية. وتذكر؛ تحديداً بعد هذا كتب بونين رسالة إلى أخيه يوري بونين قال فيها؛ «لقد نفذ الإسلام عميقاً إلى روحي». وتشير إلى (أن معرفة بونين لمدينة القسطنطينية لا تقل عن معرفته لموسكو). وفي ربيع (1907) قام بونين برحلة ثانية طويلة في بلدان الشرق الإسلامي، وخلالها زار إضافة إلى القسطنطينية كلا من فلسطين وسوريا ولبنان التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وأيضاً مصر.
في الرحلة التالية عام (1908) زار الكاتب من جديد القسطنطينية، أما في ربيع عام (1910) فقد تجول في الجزائر وتونس. ومرة أخرى حلّ بونين في القسطنطينية وبيروت، وكذلك قضى ستة أسابيع في مصر. وكما ألفناه صدَّر الشاعر بونين قصيدة «السَّراب» بالآية الأولى من سورة ا»لكوثر («نَّا أعطيناك الكوثر» وختمها بكلمة (صَلِّ) التي اقتبسها من الآية الثانية «فصلِّ لرَّبِّكَ وأنحرْ»؛ (وهناك، وراء الضباب، يجري ويتدفق، نهر الأنهار، الكوثر اللازوردي، يبشرُ كل الأراضي، وجميع القبائل والأقطار بالطمأنينة… اصبر، صَلّ- وَثِق).
والممتع أن مشهد حاج مسلم عائد من مكة المكرمة، حاملاً إيمانه وتقواها في غربته ورحاله، من غير أن يكون ساهياً عن صلاته وأداء فرائض دينه، وإن على ظهر مركب يمخر عباب البحر ويحمل أتباع أديان وأقوام شتى، وورعه مس قريحة الشاعر المغترب النَّبيه بونين، فأنشد معجباً بمواظبة الحاج الممسك بعبادته ومناسك دينه وفرائضه، رغم عناء الرِّحال وغربة المكان وتباين الرَّحالين في الطباع والعقائد والأعراف. وكعادته بدا بونين شاعراً بهياً سمحاً في رؤيته، بارعاً في وصفه وتعبيراته، منسجماً مع صوره الشعرية الشفافة المشحونة بوهج العواطف والمشاعر الجياشة بالوجد والشجو والنجوى. ونألفه في قصيدة «الحاج» مفصحاً عن ثنائه وتعاطفه مع مَنْ إلى ربه يسعى؛ (على بساطٍ عند أصفاد المراسي، وقفَ عاري القدمين، أشيب، في جُبةٍ قصيرة وعمامة كبيرة، تزداد مع الغروب طراوة. الليل قادم، والجسد فرح به).
1- السِّرُ
« ألف، لام، ميم» (القُرآن).
زَفر السَّديمَ على النَّصلِ –
وقد خمدَ زَبانُ خنجره السوري
في ضَبابٍ لازوردي؛
من بين الضَّبابِ برقَ ساطعاً
وشاءٌ ذَهبيٌ منقوشٌ
بالعسجد على فولاذ.
« بسم الله والنَّبيِّ.
اقرأ يا خادم السماء
والقضاء والقدر دعاء قتالك؛
قل، بأي شعار مرصع نصلك؟»
وإذ قالَ؛ « شعاري رَهيبٌ
هو- سِرُّ الأسرارِ؛ ألف. لام. ميم».
« ألف، لام، ميم؟»
غير أن هذه الرموز غامضة،
كالطريق إلى غياهب الآخرة؛
أخفى مُحَّمد سِرَّها»…
« اصمت يا كافر- قالها بصرامة،
لا إله في العالم، إلا الله،
لا قوة – أقوى من السِّر».
قال، وإذ مَسَّ باليطقان،
الجبين تحت عِمامة الحرير،
وقد رمق (آت- ميدان) القائظ
بِنَظرةِ طير ضاري كَسلة-
عاد وأسْبَلَ، بهدوء،
الرموش الزرقاء على اليَطْقان.
1905
2- السّراب
« إنّا أعطيناكَ الكوثر»( القُرآن)
هنا مملكةُ السبات.
مقفرة على نَحْو مئات الفرسات
والشاطئ قاحل عاري.
غير أن الماء، سماوي- زمردي
والرمل الناعم أبيض من الثلج.
لا شيء بين الرمال الناعمة،
سوى نبتات الشِّيح الرمادية- الزرقاء
يُنميها الله لقُطعان الضأن الرِّحل.
لكن السماء،هنا، زرقاء للغاية
والشمس فيها- كنار جهنم (سَقَر).
في ساعة الهجير، حين يبدو السَّراب (مرْآتي)
يوحد العالم كله في سبات عظيم،
وبريق لا حد له، يحملُ الروحَ
إلى رياض الجنة،
وما بعد الحدود بقاع كئيبة.
وهناك، وراء الضباب، يجري ويتدفق
نهر الأنهار، الكوثر اللازوردي،
يبشرُ كل الأراضي،
وجميع القبائل والأقطار بالطمأنينة…
اصبر، صَلِّ- وَثِق.
(القدس العربي)