الرسامة الأميركية لويزا بورجوا تتمرد على الفن

فاروق يوسف

لويزا بورجوا لا تزال ممكنة على مستوى الحياة الفنية المعاصرة المتمردة على كل أشكال الفن الحديث. الفنانة فرنسية الأصل، أميركية الجنسية التي عاشت قرناً كاملاً ما بين عامي 1911 و2011 تأبى الذهاب بفنها إلى المتحف. النظر إلى أعمالها أينما ومتى عرضت يخطئ التقدير دائماً. فتلك الأعمال لا تنتمي إلى ما استقرت إليه الحداثة الفنية من أساليب وتقنيات وأفكار صارت معروفة ومكرسة، بل ذهب الجزء الأعظم منها إلى قاعات الدرس. لقد تحاشت لويزا مغريات التكريس من خلال هدمها للقوالب الجاهزة، فكانت تقف وحدها دائماً. وهو ديدنها منذ بداياتها التي عاصرت سطوع نجم السريالية التي لم يرق لذكورها وجود انثى متمردة بين صفوفهم.
في المعرض الخاص الذي يقدمه تيت مودرن – لندن تحضر بورجوا رسامة ونحاتة، من غيرر أن تكون منسجمة تماماً مع المقاييس الجاهزة للصفتين. فهي رسامة ونحاتة، لكن خارج ما هو متعارف عليه. ففي الرسم تغلّب لويزا الفكرة على الشكل ولا تعنى كثيراً بالتقنية وفي النحت تميل إلى تركيب الأشكال بطريقة لا توحي بالرغبة في استخراج كتلة متماسكة. وكما أرى فإن انقطاع صلة لويزا بالتيارات الفنية الجماعية التي كانت سائدة في وطنها والذي حدث في وقت مبكر من حياتها (عام 1938 حين تزوجت من مؤرخ الفن الأميركي روبرت غولد ووتر وغادرت فرنسا) قد دفع بها إلى تلمس الطريق إلى الفن من خلال العكوف على ما هو شخصي، فكانت تمارس الفعل الفني، تنحت وترسم كمَن تكتب يومياتها وهي تعرف أن لا أحد سيطلع عليها. وهنا بالضبط تكمن شحنة الحرية الفائضة التي عدها بعض نقاد الفن ومؤرخوه نوعاً من العبث واللعب الذي كانت لويزا تمارسه بمجانية مفرطة.
لهذا السبب لم تحسب بورجوا على مدرسة أو تيار أو جماعة فنية بعينها. كان فنها يشبهها. ولم يكن هناك ما يقيدها اسلوبياً ولا على مستوى ما تستعمله من مواد. تمردها الواثق هو مزيج من الشغف الجمالي الغامض والانتهاك الصريح لأسرار الجسد الأنثوي في علاقته بداخله وبالخارج. لم تكن تزخرف العلاقات الحميمية بالثرثرة الغزلية على غرار غوستاف كليمت مثلاً ولم تكن قاسية في تشريحها مثلما فعل فرانسيس بيكون. بالنسبة إلى بورجوا فإنها لم تنظر إلى الجسد من الخارج، بل مخرته من الداخل بقدر ما تملك من رغبة في تجريده من مواقع عصمته ومناعته. كان عملها بمثابة استعراض مضن لعمليات شاقة من الحفر والتنقيب واقتفاء الأثر وإزالة الغبار عن المعاني. وهو ما دفعها إلى أن تلجأ إلى التفكيك والتشذيب والكسر بحثاً عن الروح العذبة التي قررت أن تهرب بعيداً عن الوصف.
كانت لويزا فنانة غزيرة الإنتاج. وهو ما يمكن توقعه من امرأة قررت أن تقضي أوقاتها في نسج أوهامها البصرية. يفكر المرء حين يرى عدداً من أعمالها في صبر الحائكين. في أعمالها هناك حياكة، غير أنها من النوع الذي يخفي سراً. فليس ما يظهر هو المقصود وليس ما يُرى هو كل شيء. هناك ثغرات محسوبة، تجعل المتلقي في حيرة من أمره. هذه امرأة استحقت لقب المرأة العنكبوت بسبب لغزيتها. وإذا ما كان نصبها (أمي) الذي هو عبارة عن عنكبوت عملاق قد احتل مكاناً بارزاً في ضاحية ديفانس الباريسية فإن نسخاً مصغرة من ذلك العنكبوت سترافق كل عرض لها. وهو ما جرى في العرض اللندني.
لا تنتج بورجوا نسخاً مكررة ومتطابقة من العمل الواحد. إنها في حقيقة ما تفعله تلعب داخل الفكرة وخارجها لتستخرج أشكالاً هي عبارة عن تنويعات على فكرة واحدة.
في الوقت نفسه تبقى حريصة على ثوابتها الجمالية في الإيجاز والتقشف والحث على التفكير في الفن. فالفن في أحيان كثيرة يبدو غاية في حد ذاته. لا يُستعمل بقدر ما يُلهم كالأيقونة تماماً. ومثلما يشكل الفن حلاً للخلاص بالنسبة إلى الفنانة فهو بالنسبة إلى المتلقي فرصة نادرة للقفز إلى مركب نجاة بعيداً عن سبل الحياة المضجرة. علاقة المتلقي بالفن تتسم بمبدأ التعامل بالمثل. نحن موجودون من أجل الفن الذي هو من جهته موجود من أجلنا. علاقة تكاملية من هذا النوع هي مصدر ذلك الغنى الإنساني الذي تشف عنه رسوم ومنحوتات لويزا بورجوا.
وقد يكون ملهماً أن الفنانة التي لم يغرها الانتماء إلى مدرسة فنية بعينها وظلت عاكفة على تطوير فنها بعيداً عن اتباع أسلوب تصويري بعينه، تحتكره كما لو أنه نسيج حياتها كان فنها دائماً غنياً عن التعريف من خلال المضامين والأفكار التي يطرحها. وهو ما وهب ذلك الفن مساحة محترمة في المشهد الفني للقرن العشرين وما بعده. ذلك لأن لويزا كانت منذ منتصف خمسينات القرن العشرين قد تخطت تقاليد الحداثة وقيمها الجمالية إلى ما بعدها. حضورها اليوم لا يشكل استعادة لماضيها في تكريس قيم الحداثة بل هو محاولة للتذكير بها رائدة لا يزال فنها يثير الكثير من الأسئلة التي تتعلق بوظيفة الفن في عصر ما بعد الحداثة.

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى