«أخضر يابس»: مخاوف امرأة … على حافات اليأس

محمد موسى

حياة شاحبة بمصير مجهول قاتم تلك التي يرسمها ويُكَبِل بها المخرج المصري الشاب محمد حماد بطلته «إيمان» في باكورته الروائية الطويلة «أخضر يابس»، والذي عرض ضمن مسابقة «سينما الحاضر» في الدورة الأخيرة من مهرجان لوكارنو السينمائي. هي امرأة مصرية عادية تعدت الثلاثينات من العمر كانت تراقب آمالها تتضاءل، وشعلة حياتها تخفت، وجدب وخواء المدينة يتسللان الى روحها. يضع المخرج عدسة مكبرة على أزمة «إيمان» وعلى العفن الأجتماعي السائد من حولها، ويرفع محنة البطلة الذاتية من الهامش المكبوت الى الواجهة. لكنه لن يصل معها الى وجهة ما، فيتركها تحصي خساراتها بصمت، حائرة أمام المنعطف المقبل.

أن ترمي حجراً
يرمي المخرج في المشهد الافتتاحي لفيلمه حجراً في سكون حياة بطلته (إداء متفهم من الممثلة هبة علي)، سيكون من القوة بحيث أن ترداداته ستصل الى المشهد الختامي في الفيلم مانحة حكايته الإلحاح اللازم. اذ إن البطلة ستسمع من طبيبها أن الفحص الذي اجرته للتو يبين أمراً غير مألوف يحتاج الى مزيد من التحريات. يفتح المخرج في افتتاحيته الذكية القصة على احتمالات تتأرجح بين حياة جديدة ربما تحملها في أحشائها أو أزمة صحية لم تحسب لها حساباً. في أنتظار نتائج الفحص، على «ايمان» ان تقضي أسبوعاً مختلفاً من حياتها، فهناك شاب يريد أن يتقدم لخطبة اختها الصغرى، وهي التي أصبحت مسؤولة عن العائلة بعد وفاة الوالدين والأخ الوحيد، عليها أن ترتب الكثير، كالعثور على «رجل» من عائلتها، يستقبل عائلة العريس.
يتحدد زمن الفيلم بين موعدين مهمين مع الطبيب، ويتشكل من تفاصيل العادي واليومي الرتيب في حياة «إيمان». والتي ستتراكم عبر زمن الفيلم لتكشف ببلاغة أزمات وهواجس البطلة، التي لا تتوقف في الأيام الفاصلة تلك لالتقاط الأنفاس، فتبدو مثل الماكنة التي تنتقل من دون مشاعر بين أمكنة حياتها المعدودة. بيد أن حركتها تلك تزيد انغراسها في تعقيدات الواقع من حولها ولن تقدمها خطوة واحدة. يركز في الفيلم في المقام الأول على الحميمي الخاص من حياة البطلة ويمر أيضاً على أختها، ويوسع مقاربته أحياناً ليقدم صورة معتمة عن المجتمع في شكل عام، اذ إن «إيمان» تفشل في إقناع عمّين لها بالحضور أثناء زيارة عائلة العريس. وتدفع زيارتها الى عمها الثالث المريض الى استعادة ذكريات بعيدة مؤلمة عن قصة حب لم تكتمل بالزواج مع ابن ذلك العم.
تتشكل مقاربة الفيلم على مماهاة الحياة اليومية لامرأة تواجه بمفردها أزمة خاصة خارج قدراتها. فيقدمها الفيلم وهي تواصل حياتها بالصرامة نفسها، تذهب الى العمل كالمعتاد، لكن المخرج وباختياراته لكادراته المؤسلبة والتي غالباً ما أظهرت البطلة وحيدة حتى في الأماكن العامة، كان يشيد من دون ضجيج توتّراً يتصاعد تأثيره مع تواصل زمن الفيلم، يرتكز على إبراز وحدة البطلة والهشاشة التي تخفيها تحت طبقة اللياقة الاجتماعية. لا يحشو المخرج فيلمه بالتفاصيل، بل يبثها عبر المحادثات العابرة المبتورة بين البطلة واختها. فنعرف أن العائلة فقدت أخاً لها، وعبر تفاصيل أقل عن قصة الحب بين إيمان وابن عمها. يخيم الموعد المقبل مع الطبيب كسحابة إضافية فوق حياة البطلة، ولا يوحي الفيلم للحظة واحدة أنها ربما ستفلت مما ينتظرها. وبعد أن يحين موعد اللحظة الكاشفة، يأخذ الفيلم انعاطفة قوية لكنها لم تكن مفاجئة، بل جاءت منسجمة مع المناخ السوداوي للحكاية ومقادير وظروف البطلة.
تهمين «إيمان» على كل مشهد من الفيلم، مكرّسةً الأخير كشريط أزمات فردية شديد الخصوصية عن شخصيته، بل إن عثرة الفيلم الوحيدة ستبدو عندما يغير وجهة العدسة، ويحولها الى أحد أعمام البطلة مع زوجته في مشهد يعيد التذكير بدراميات السينما المصرية الشائعة. أما القاهرة التي تظهر في الفيلم فهي مدينة منهكة، وديكور بالغ القبح لحيوات تعيسة. يحفل الفيلم بالعديد من المشاهد المتميزة التي وازنت بين الشكل الشاحب للفيلم مع تبدلات الوضع النفسي للشخصية الرئيسية. وفتحت زوايا التصوير المبتكرة (المصور محمد الشرقاوي) الأماكن المغلقة وربطتها بالمحيط الخارجي، كاللقطات الرأسية التي انتقلت من مشهد نافذة درج العمارة المفتوح على «الترام» الواقف في الخارج، الى الطوابق السفلى في العمارة. او العديد من اللقطات المركبة الأخرى التي كانت تجمع بين فضاءات عدة.
يقترب الفيلم الجديد بلغته السينمائية المتقشفة ومقاربته الذاتية الراديكالية من فيلم «الخروج للنهار» للمصرية هالة لطفي (2012)، والذي مثّل تجديداً مهماً على بنية السينما الروائية الواقعية المصرية، باستعانة مخرجته بممثلين من خارج منظومة النجوم السائدة، وكسرها محرمات المحافظة الاجتماعية المعروفة، حيناً عبر الكشف النفسي الصادم عن دواخل الشخصيات، وأحياناً أخرى لما تعرضه الأفلام من تفاصيل نسائية حميمية تعد من المحرمات في أعراف السينما المصرية المحافظة في جوهرها. وعلى رغم أن طريق هذه الأفلام للوصول الى الجمهور المصري الواسع عبر الصالات العادية يقترب من المقفل، الا أن الضجيج الذي تسببه والأسئلة الأسلوبية التي تقترحها، هو تماماً ما تحتاجه عاصمة السينما العربية منذ عقود.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى