«أيام التراب» رواية عراق لا يستعاد

فاروق يوسف
في العام 2009 أصدر زهير الهيتي روايته الأولى «الغبار الأميركي» عن دار الساقي. قبلها لم يكن أحد قد سمع باسمه. غير أن روايته تلك قدمته كاتباً محترفاً. كان هناك شيء معقد من الصنعة استطاع الكاتب من خلاله أن يمزج بطريقة متخيلة وقائع متناثرة يمكنها أن تشكل نسيج حياة مضطربة، من غير ان تكون تلك الوقائع بالضرورة قد جرت، غير ان ربطها بحقائق العيش في عراق ما بعد الاحتلال كان من شأنه أن يضفي عليها سمة واقعية. وهو ما بدا أكثر انضباطاً في روايته الجديدة «أيام التراب» التي صدرت عن دار التنوير.
على عكس الرواية الأولى التي احتضنت أحداثها ثلاث مدن هي بغداد ونيقوسيا وبرلين فإن أحداث الرواية الجديدة لا تخرج بعيداً عن نطاق حي بغدادي عريق هو حي البتاويين ولا تستغرق من الزمن إلا أياماً معدودات، اقتطعها الروائي من سنوات الرعب ليقدم من خلالها صورة شاسعة لما شهده العراق من عمليات تطهير عرقي وطائفي، ملقياً الضوء على نوع مسكوت عنه من التطهير الطبقي الذي جرى وسط الفوضى، كاشفاً عن مستويات من الكراهية المبيتة، التي وجدت فرصتها في الظهور في ظل غياب الدولة. وهنا بالضبط تشكل الرواية سبقاً على مستوى الإحاطة بجانب من الشخصية العراقية. ذلك الجانب الذي يتعلق بالتلذذ باستضعاف الآخر في لحظة تهور، لن يكون الندم بعدها نافعاً إذا ما فكرنا بالغفران. هناك رغبة في القفز على العدالة.
تعيش بطلة الرواية مع أخيها الذي ضربه الجنون أثناء مشاركته في الحرب العراقية – الإيرانية في قصر عائلتها الذي هو ارثهم عن أزمنة، شهدت بغداد فيها تألق مجموعة من العوائل الارستقراطية التي كانت في طريقها إلى أن تشكل نخباً ثقافية وسياسية واقتصادية بعد أن ساهمت في بناء الدولة العراقية الحديثة.
كل أحداث الرواية تجري في ذلك القصر ومن حوله، متبعة خطى البطلة وهي الراوية. وإذا ما كانت صور الحرب هي كل ما تبقى في ذاكرة الأخ المنفصل عن الواقع فإن البطلة تجد في سبع لوحات تملكها العائلة أبواباً تفتحها لتطل من خلالها على حاضرها. امتلاك العائلة لتلك اللوحات التي لا يمكن أن تجتمع في مكان واحد، حتى لو كان ذلك المكان متحفاً هو الجانب المتخيل من الرواية. وهو الجانب الذي حاول الروائي من خلاله أن يستعين بالفن لفهم الواقع، لا من خلال تصويره وحسب، بل وأيضاً من خلال التفكير فيه.
اللوحات هي «الهذيان» لماكس ارنست و»الاختفاء» لأرنولد بوكلين و»الحب» لماكس ليبرمان و»العتمة» لكارافاجيو و»الهزيمة» لفيلاسكز و»الجحيم» لهيرونوموس بوش و»الغموض» لغويا. اختار الهيتي تلك اللوحات بذكاء يتماهى من خلالها مع أحداث الرواية، مستعيناً بالعوالم التي وصفها الرسامون ليبني عالمه المشدود مثل حبل متوتر في طريقه إلى أن ينقطع في أية لحظة تحت قدمي البطلة. كان الرعب قد اقتحم القصر من خلال رسالة قصيرة لا تضم إلا رصاصة وهو ما يعني «غادروا المنزل وإلا». يعد ذلك تعرف البطلة أن الخادمة التي ربتها هي طرف في عصابة من الرعاع تريد أن تستولي على القصر بعد أن تنهبه. في خضم ذهولها تلجأ البطلة إلى بيت صديقتها المسيحية التي هُجرت لتتعرف هناك على الجارة التي كانت يوماً ما مومساً. من خلال تلك المرأة تصل إلى الأب فريدون الذي تقيم معه علاقة حميمية لاهية بالحب عما يحيط بها من أخطار. وحين تشعر أن الخطر قد اقترب منها تهرب إلى بيت صديقتها. غير انها لم تقاوم حنينها إلى ملاذ حياتها، قصر العائلة فتعود لترى الرعاع وهم ينقلون أثاث القصر، بلوحاته إلى الشاحنات فتقرر أن تغادر البلد استجابة لنداء حبيبها الذي سبقها إلى الهرب بعد أن طلبت من خادمتها الخائنة أن تقتل أخيها بالسم.
لقد قدم زهير الهيتي كابوسه على طبق جمالي مهيب، بلغة بغلب عليها التشويق، من غير أية زخرفة بلاغية. لم يصب كل اهتمامه على الحكاية وإن كانت مادتها الدسمة تكفي لتجسيد حالة الذعر التي عاشها العراقيون بعد أن تمكنت الميليشيات الطائفية المسلحة من فرض سيطرتها على الشارع، بل كان يلقي بين حين وآخر نظرة وصفية مسترخية على اللوحات ليخبرنا شيئاً عن النبوءة التي ينطوي عليها الفن عبر التاريخ.
«أيام التراب» رواية عن عراق لا يمكن استعادته. تمكن كاتبها من القبض على عراقه في لحظة تشنج، كانت بمثابة فاصلة بين زمنين.
(الحياة)