حيّ نويشتاد في ستراسبورغ إلى لائحة المواقع التراثية العالمية

أوراس زيباوي

لبعض المدن قلوب تنبض مثل قلوب البشر. تلك حال الأحياء القديمة في مدينة ستراسبورغ العريقة الواقعة في شرق فرنسا والتي باتت، بسبب موقعها الجغرافي بين فرنسا وألمانيا ومكانتها الاستراتيجية، مدينة أوروبية وعالمية من الطراز الأول وعاصمة للمنظمات الدولية كالبرلمان الأوروبي. ومناسبة الحديث عن الأحياء القديمة في المدينة وتراثها المعماري المميز هو الحملة التي أطلقتها بلدية ستراسبورغ بالتعاون مع وزارة الثقافة الفرنسية لضمّ الحيّ المعروف بـ نويشتاد Neustadt، أو الحي الألماني، إلى لائحة المواقع التراثية العالمية المسجلة لدى منظمة «يونيسكو» الدولية.
لا بد من التذكير هنا بأنّ «يونيسكو» الدولية، ومنذ أكثر من أربعين عاماً، شكّلت لجنة دولية لاختيار المواقع التي ينبغي تسجيلها على لائحة التراث العالمي بغية إبرازها والمحافظة عليها. وتجتمع اللجنة سنوياً لضمّ مواقع تراثية جديدة لها إذا ما كانت تستوفي الشروط المطلوبة.
كان قلب المدينة القديم في مدينة ستراسبورغ والذي يضمّ الكاتدرائية القوطية الشهيرة المشيدة منذ أكثر من ألف عام وصروحاً من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، قد سجل على لائحة التراث العالمي للـ «يونيسكو» عام 1988، غير أن المسؤولين عن السياسة الثقافية في المدينة يرون أن ثمة أماكن أخرى تستحق أن تسجل أيضاً على لائحة التراث العالمي وفي مقدّمها الحيّ الألماني كما أشرنا. ومنذ العام 2000، بدأ العمل الفعلي للمؤسسات الفرنسية المعنية من أجل إبراز قيمة هذا الحيّ على الصعيدين الفرنسي والأوروبي والعالمي. ومطلع هذا العام، أعلنت وزارة الثقافة الفرنسية رسمياً ترشيح ستراسبورغ مجدداً لتكون على لائحة التراث العالمي. ومن أجل دعم هذه الحملة الرسمية، تدعو بلدية المدينة صحافيين فرنسيين وأجانب لزيارة الحيّ الألماني من أجل التعرّف مباشرة إلى خصائصه المعمارية النادرة.
وأطلعنا المسؤولون عن المشروع، أثناء تجوالنا في شوارع هذا الحيّ العريق، على قصة ولادته ونشأته خلال مرحلة ممتدة من العام 1880 حتى مطلع الحرب العالمية الأولى، وكانت ستراسبورغ وقتها، كما بقية مناطق الألزاس واللورين، جزءاً من الإمبراطورية الألمانية. وكان الحكم الألماني رغب في تشييد قسم جديد للمدينة أُضيف إلى أحيائها التاريخية القديمة ما ساهم في توسعها وتمددها. وما يميز هذا الحيّ من الناحية الهندسية هو اعتماد أبنيته على طراز معماري فريد يمزج بين أساليب فنية كثيرة ويصهرها في بوتقة واحدة.
ولا تتعدى غالبية الأبنية السكنية خمس طبقات، وهي مبنية من الحجر وواجهاتها مزخرفة بمنحوتات تستوحي عالم النبات والبشر والحيوانات. وهي محفورة في مواد مختلفة كالحجر الرملي والآجر المشوي والحديد… في موازاة الأبنية السكنية، هناك الصروح الكبيرة كالقصر الامبراطوري والمكتبة الجامعية والحمامات العامة مع أحواض سباحة والمفتوحة إلى اليوم أمام الجمهور، وقد شكلت، يوم بنائها، حدثاً بسبب حداثتها واهتمامها بالنظافة العامة لأهل المدينة قبل انتشار الحمامات في المنازل.
بسبب مزاياه العمرانية الفريدة، يعدّ الحيّ الألماني، بشوارعه وساحاته وأبنيته السكنية والعامة، شهادة نادرة عن الطراز الألماني المعماري خلال فترة الإمبراطورية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو نموذج متكامل من الناحية الهندسية والتنظيم المديني لا نعثر عليه حتى في المدن الألمانية نفسها بسبب الدمار الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية.
أخيراً، يعكس الاهتمام الفرنسي بهذا الحيّ ذي الطابع الألماني التطور الكبير الذي حققه الفرنسيون في قراءتهم لماضيهم الأوروبي، متخطين بذلك زمن الحروب والأحقاد التاريخية، مركزين على التراث المشترك والقيم الثقافية التي تجمع ولا تفرق وتشكل عنصراً أساسياً في محاربة صعود النزعات المتطرفة التي نشهدها اليوم. وهنا لا بد من التذكير بأن ستراسبورغ مدينة متعددة الأديان وفيها جالية مسلمة وجامع يعرف بالجامع الكبير افتتح عام 2012 ويعدّ صرحاً معمارياً مهماً، وقد صممه المعماري الإيطالي باولو بورتوغيزي، أحد ممثلي تيار ما بعد الحداثة في العمارة، وهو مصمّم مسجد روما الذي افتتح عام 1974.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى