بول غوسيان.. «حرية غير مشروطة»

محمد شرف
أول ما قد يتبادر إلى أذهاننا، قبل الولوج إلى معرض بول غوسيان ، هو أن الفنان سليل عائلة إرتبط إسمها بالفن، وبالنوع التصويري التشكيلي منه خصوصاً. هذا الشعور لا ينطبق علينا شخصياً، بل ينسحب، ربما، على العارفين بأمور الفن عموماً في بلدنا، والمتتبعين لإرهاصاته على مدى نصف قرن من الزمن، أو أكثر. إضافة إلى ذلك، سيبحث البعض عن نقاط التلاقي، كي لا نقول التقليد، الذي يربط الجد المعروف بالأبناء، ومن ثم بأحد أحفاده.
وإذا كنا لا ننفي تماماً العلاقة التي تربط ما بين الراحل بول غيراغوسيان، المنتمي إلى جيل الحداثة الأولى، والذي ترك أثراً واضحاً في الفن التشكيلي اللبناني، والحفيد الذي نحن في صدد مشاهدة نتاجه، فإن المعاينة الأولية، أو الإنطباع الأول الصادر عن الأعمال، سيزيح هذه الأفكار عن روؤسنا ليأخذنا في إتجاهات آخرى. هذا الأمر يُعتبر طبيعياً في مرحلة لم تعد فيها التأثيرات المتعلّقة بالفن التشكيلي تقتصر على الإنبهار الأحادي بهذا الفنان العالمي، أوالمحلي، أو ذاك، ممّن حققوا إنجازات في مجال التشكيل لا يمكن إغفال أهميتها ومكانتها، بل صارت المسألة أكثر تعقيداً، إن لم يكن لدى جميع العاملين في هذا الحقل، فعلى أكثريّة منهم.
الإنطباع الأول المذكور سيذهب نحو ملاحظة الحرية، وأحياناً غير المشروطة، لدى بول غوسيان، في كيفية التعاطي مع اللوحة. وإذا كانت هذه الحرية نسبية في ما يختص ببناء العمل، فإنها تذهب أبعد من ذلك في ما يختص بالخيارات اللونية، التي جاءت إصطلاحية في معظمها، وذات درجات متفاوتة في صلتها بالعالم الواقعي. هذا الحكم ينطبق على الأنواع، أو الموتيفات التي إعتمدها الفنان كموضوعات لأعماله، المتراوحة بين البورتريه والقامة البشرية، وموتيفات إخرى من طبيعة معمارية ـ أثرية، أو وسائل نقل إقتصرت، كما يبدو، على قطار مهجور عفا الزمن على إستعمالاته، وصار أشبه بنصب معدني كان، ذات يوم، وسيلة نقل للأشخاص أو للبضائع، لا تخلو الذاكرة المتعلّقة به من رومانسية من نوع خاص، عرفها أجدادنا في مرحلة كان الزمن فيها يسير ببطء محمود. لا يمكننا، من خلال معاينة تلك الخيارات، اللونية في طبيعة الحال، إلاّ أن تتجه أفكارنا صوب تيار الوحشيّة ( فوفيزم )، وهي الحركة التي ظهرت في بدايات القرن الماضي، وتحلّق أفرادها حول هنري ماتيس، الفنان الذي أتاح له عمره وثقافته أن يقوم بدور المؤسس لها.
وكما إبتعدت الوحشيّة، في حينها، عن الأكاديمية والإنطباعية، إبتعد غوسيان عن «التنظيم الفيزيائي الذي يُفقد السطح والخط سكونهما»، كما يشير جورج دوتوي في كتابه «الوحشيون»، لذا، فإن إستعمال الألوان الصافية الصارخة، وإعتماد اللون وسيلة للتعبير العفوي والمباشر، واللجوء إلى الرسم المبسّط والسريع أحياناً، إلى غير ذلك من وسائل تشكيلية تمكّن الصانع من التعبير المباشر «العنيف»، نقول أن هذه الأمور كلّها تصبح بديهية في الحالة التي نحن في صددها. إلى ذلك، لا يغيب الوجه المحلّي عن الأعمال، وإذا كانت هذه الصفة لا تبدو واضحة تماماً في القامات والبورتريهات، إلاّ أنها تحضر في مشاهد هيكل باخوس، الذي أسقط عليه الفنان إنفعالات لونية مؤثرة، تتواكب مع إزاحة الرسم إلى مقام ثانوي، وهذه المقاربة تنسحب، أيضاً، على القطار المنسي، أو تحضر في مشهد طبيعي قد لا يدلّ على منطقة محددة في عينها، بقدر ما يمكن أن ينطبق على أجواء تتماثل في صفاتها ومكوّناتها.
(السفير)