روجيه عساف يؤرّخ المسرح المهمش

مايا الحاج

قد يولّد فيك كتاب روجيه عسّاف «المسرح في التاريخ» (بالفرنسية، منشورات لوريان ليتيرير) أسئلةً كثيرة عن الجديد الذي يُمكن أن يقدّمه المخرج اللبناني الرائد عن المسرح؟ وهل يكون شخص واحد قادراً حقاً على الإحاطة بكل الجوانب التاريخية للمسرح في دول مختلفة وأزمنة متباينة؟ ثمّ لماذا اختار المسرحي اللبناني أن يُقدّم كتابه الموسوعي بلغة فرنسية استفاض ناطقوها بالكتابة عن المسرح وتأريخه؟ ولكن، ما إن تستكمل قراءة الكتاب، فصلاً تلو آخر، وهي قراءة تحتاج الى أن تستعاد، حتى تتجلّى أمامك قيمة هذا العمل الموسوعي التي تُشكّل ما يُشبه إعادة نظر في مفهوم تاريخ المسرح، بعيداً عن المفهوم الغربي. وانطلاقاً من إطاره الزمكاني- من العصور القديمة حتى النهضة، فالمسرح الإليزابيتي ومن اليونان وروما إلى آسيا والعالم العربي وأوروبا- يجد القارئ بين يديه رواية كاملة عن مسرحٍ أسّسه الإنسان على امتداد الحضارة البشرية. فهل تحمل الإطلالة العربية على المسرح العالمي بُعداً أوسع من تلك النظرية الأحادية التي حكمت حركة التأريخ المسرحي؟ «نعم، يقول عساف. الموسوعة تكسر رؤية نمطية كانت انطلقت حصراً من المفهوم الغربي ابتداءً من القرون الكلاسيكية، لتقدم رؤية جديدة وشاملة للمسرح الإنساني في كل أوجهه».
غالباً ما تُحدث الأعمال الموسوعية لغطاً أو لنقل جدلاً بين النقاد والباحثين لكونها تتطلب شروطاً دقيقة وصارمة، أهمها الإحاطة الشاملة والمنهجية. لكنّ موسوعة عساف الفرنسية تختزل في بنيتها معظم الشروط الأساسية التي يصعب توافرها عادة في مثل هذا النوع من الكتاب، فنجد أنّ مؤلفها لم يهمل- على عكس بعض المؤرخين الغربيين مثلاً- أي نوع من الأنواع المسرحية التي عرفتها الحضارة الإنسانية خلال الفترة التي يتناولها الكتاب، من المسرح الإغريقي والروماني إلى الهندي والعربي فالياباني والصيني والأوروبي (السنسكريتي، الأوبرا الصينية، النو والكابوكي اليابانيين، مسرح الظل، مسرح الحكواتي العربي …). لكنّ اللافت أنّ المساحة التي احتلها المسرح الآسيوي والعربي كانت أكبر وأوسع من مساحة المسرح الغربي، وهذا ما يبرّره مؤسس «مسرح الحكواتي» في حديثه لـ «الحياة»: «هذا التوزيع كان مقصوداً. المسرح الأوروبي قيل الكثير فيه. ما كُتب عن أنواع المسرح في أماكن أخرى أقلّ بدرجات لا تُقارن بكُتب عن المسرح في فرنسا وأوروبا. من هنا كانت الفكرة في إعادة الانتباه إلى الإنتاج المسرحي المهم جداً في دول لم يُعطها المؤرخون الغربيون حقها الوافي، وتقديم بانوراما مسرحية جديدة على القارئ الفرنسي».
ولو توقفنا عند محور»العالم العربي» لوجدنا أنّ التأريخ المسرحي لهذه المنطقة حوى تأريخاً سوسيولوجياً للمراحل التي تناولها. فلا يغوص الكاتب في تفاصيل هذا المسرح كمنجز فني- إبداعي يقوم على طبيعة خاصة جداً تجعل من المجتمع خشبةً ومن النصّ أداءً ومن الراوي ممثّلاً، بل يعمد إلى تفكيك ماهية العلاقة بين المتلقي والممثل (الراوي والمروي له) من خلال الخلفية الدينية والفكرية والاجتماعية (المسرح والإسلام مثلاً). ومن ثمّ يستعيد سِيَراً خرجت من صميم ثقافة العربي وحضارته وإرثه الفكري كي تبقى راسخة أبداً في ذاكرته ومنها سيرة عنترة بن شداد، أبو زيد الهلالي، الأمير حمزة، الزير سالم، سيف بن ذي يزن.
وقد تأخذنا كلمة «مؤرخ» التي جاءت في سياق حديث مؤسس المسرح الحكواتي في لبنان إلى نقطة أساسية قد يستشعرها قارئ هذه الموسوعة. فالتأريخ العلمي الدقيق يترافق في هذا العمل مع لغة إبداعية نابضة تعكس روح الفنان الذي لم تنزع منه صفة المؤرخ إحساسه العالي بالكلمات وإيقاعها وتأثيراتها.
فعل التأريخ هذا ليس جديداً على المسرحي الطليعي روجيه عسّاف، الذي سبق أن قدّم موسوعة «سيرة المسرح – أعلام وأعمال» في أجزاء أربعة باللغة العربية (دار الآداب)، هو الذي نذر حياته للمسرح إخراجاً وتأليفاً وتمثيلاً وتأريخياً. وكان رصد في موسوعته العربية تاريخ المسرح العالمي بدءاً من جذوره اليونانية- الإيطالية حتى الحداثة، من دون أن يُغيّب وجهاً من وجوه المسرح الذي وُجد في كلّ المجتمعات البشرية وارتبط جذرياً بالمكان الذي نشأ فيه ليصير هو التعبير الأصدق عن همومهم وأحلامهم وهواجسهم. فإن لم يكن الكتاب بالفرنسية ترجمة للموسوعة العربية، فأيُّ فرقٍ يمكن أن يلتمسه القارئ بينهما؟ يُجيب عساف: «هي ليست ترجمة وإنما إعادة كتابة، مع توسيع بعض الموضوعات. الفكرة ذاتها تقريباً غير أن الاختلاف بينهما يبقى بنيوياً. حين اشتغلت على النصّ الفرنسي، كان في بال دار النشر(لوريان دي ليفر) أن أنجز كتاباً أقرب في شكله ومضمونه إلى الموسوعات. لذا فإنني أضفت محاور جديدة وبدا الكتاب الفرنسي أضخم حجماً. والفرق أيضاً يكمن في الملاحظات الجانبية بحيث أضفت شروحاً كثيرة في قسم «المسرح العربي» مثلاً كي تصل الفكرة أوضح إلى القارئ الفرنسي أو الفرنكوفوني، بينما لم تكن موجودة في النسخة العربية على أساس أنها بديهية عند القارئ العربي. وبالعكس، تقلصت التفسيرات الخاصة بالمسرح الفرنسي لكونها معروفة سلفاً عند القارئ الفرنسي فيما كان هامشها أكبر في الكتاب العربي».
أمّا عنوان الموسوعة فيستحق أن نتأمّل فيه طويلاً. فهو لم يعتمد الصيغة التقليدية «تاريخ المسرح» على غرار الموسوعة الشهيرة للإيطالي فيتو باندولفي وغيرها، وإنما لجأ إلى صيغة معكوسة تُبدّل المعنى وتمنحه بُعداً آخر. «المسرح في التاريخ» إذاً لا يعرض فقط تاريخ المسرح (بدلالته الزمانية) وإنما يشير في معناه الضمني إلى تحولات المسرح وأنواعه وأشكاله (مكانياً وفنياً وزمانياً). والأهم أنّ عساف غلّف كلمة «مسرح» بمعانٍ أخرى، فجعلها مرادفة للإنسان والبيئة والحياة. وهذا ما نستدلّه مما جاء في مقدمة الكتاب: «ذات يوم، اكتشفت أن المسرح هو الوجه الخفيّ للتاريخ. رأيتُ على خشبة ضيّقة- شكّلتها الكلمات والأجساد- قروناً تخلع ملابسها وزينتها. الحكومات والحروب، الفتوحات والهزائم، الغنائم والآثار… كلّ ما يمرّ في معرض الحضارات الكبير يغدو خلفية دراما غير تاريخية، تتصلّ برجال ونساء يحزنون، يحلمون، يأملون، يتألمون، يتباعدون، يتوحدون، ينتمون إلى أزمان ودول يتجاهلها التاريخ».
المسرحي اللبناني روجيه عساف الحائز جائزة «الأسد الذهبي» في «بينالي البندقية» عن مجمل أعماله عام 2008 سينتزع اهتماماً جديداً عبر موسوعة تنقل المسرح من مربع التاريخ الكبير لتضعه في سياق التاريخ الشخصي للأفراد الذين صنعوه تلبية لحاجاتهم في البوح والتعبير. أما أهمية الكتاب فيرى أنها كامنة في كونه مكتوباً بالفرنسية، ولا يستغرب فكرة أن يقدّم شخص واحد موسوعة عالمية، فالكتاب الذي تطلّب عشر سنوات من البحث قبل صدوره باللغة العربية ثمّ ست سنوات من الكتابة بالفرنسية هو في الأصل عصارة حياة طويلة قضاها صاحبها مهموماً بالمسرح، باحثاً ومؤلفاً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى