«غلوري» لغروزيفا وفلشانوف.. محنة المغبون

زياد الخزاعي

المهمّ والخاطف في جديد الثنائي البلغاري كريستينا غروزيفا وبيتر فلشانوف «غلوري» (سلافا)، ليس قصّ حكاية مواطن مهزوم ومَغبون ومقهور بل مقاربة حالات ترهيبه واستعدائه وشيطنته، عبر تضخيم حدث صغير وعابر بأسلوبية المعلّم الروسي أنطوان تشيخوف وواقعيته الاجتماعية. لن يتمثل عالم البطل هنا بـ «وقائع» أيام قليلة تُحاك حولها مكائد موظفة حكومية بلا ضمير، وفساد إدارات وبطش مسؤوليها، بل في «التوقيت» كإشكالية حياتية تقود رجلاً مستوحداً الى ارتكاب جناية ملتبسة. يسعى الشريط، إلى إدانة «حالة» وجودية مُرتّبة درامياً وقوية التأثير والمقاصد، تزيح بعناد أولوية الـ «حكاية» وهيمنتها التقليدية. هذا تطبيق مخاتل وغير مقصود لمقولة المنظر والمخرج الفرنسي البولندي الأصل جان أبشتين (1897 ـ 1953): «السينما ليست عن حكايات إنما عن حالات مؤثرة».
تبدأ حالة عامل الصيانة في شركة السكك الحديد الحكومية المدعو تزانكو (ستيفان دينولايبوف)، سينمائياً، مع عثوره على رزم مال منثورة على خط ثانوي، لكنها (الحالة) لا تنتهي بشكل تفصيليّ وكليّ وحاسم مع مشاهدتنا الرجل ساحباً، في المشهد الختامي وبضجة مبالغ فيها، قضيباً حديدياً قبل أن تلف الظلمة الشاشة، ناثراً فضولاً حماسياً حول «فعلته اللاحقة». لا يلتفت الثنائي غروزيفا/ فلشانوف كثيراً الى عالم هذا الرجل المتوحّد أو يعرّفان مشاهدهما بما يحيط يومياته أو مَنْ يعاشره. فالأساسي لديهما كامن في فضح مغازي سطوات أوتوقراطية وسفالات كائنات كيدية تبرر سلوكاً انتقاصياً وانتقامياً في آن معاً، تقوم به شخصيات تستغل نفوذها، وتمعن في استهتارها.

إغواء الرأسمالية
المؤثر في كآبة الأيام المعدودة للشغيل الرثّ الهندام والحزين الطلّة أن نصاعته لا تلقى تثميناً وسنداً يحولانها الى قدوة اجتماعية. ففي بلاد قفزت الى إغواء الرأسمالية من دون أن تتخلى عن الرداء الثقيل للتوتاليتارية المتجذّرة، لن تتغير فيها أخلاقيات ما أُطلقت عليها «مرحلة الغباء البيروقراطي» حيث الجمود والخضوع وإهمال الفرد العامل والنهب والتلاعب والقمع هي مكونات إدارية تستلب قوة العمل وأخلاق التفاني وتفرّغ قيمها الخلاقة التي تُعرِّض تزانكو، بسبب تمسكه بها والانتصار الى خصالها، الى ظُلم مشؤوم (بذرة الشريط تبدأ حيث تنتهي قصة إخبارية نشرتها الصحافة المحلية حول رجل صادف ثروة، أما بقية التفاصيل فهي مختلقة). أولا بسبب مسلكيته وحياديته، وثانيا إيمانه الذاتي بأنها حصانة حكومية تربّى على وجوب الامتثال لها، وعدم الخجل من التضرّع اليها. تُشعّ طاعات تزانكو عبر ولعه ـ كعامل قطارات ـ بالتوقيت الذي جعل منه أقرب الى «روبوت» بشري منظم و «مُستعمَر» من قبل جدولة يومية شديدة الانضباط، علامتها مشهد افتتاحي أسود نستمع فيه الى صوت مذيعة آلية تُخبره دقة الوقت. بعده، نرصد عاداته اليومية الموزّعة بين قلي بيض وإطعام أرنب وترتيب عدّة عمل وتهيئة حقيبة وإتمام واجب.
لا حكاية خارقة في حياة «الرجل الصغير» المصاب بالتّأتأة سوى تكرار أفعاله والتكتم على تجاوزات زملائه ناهبي مازوت القطارات وبيعها في السوق السوداء. في طريقه، يكتشف رزم المال على السكة، وبدلا من الاستيلاء عليها كفعل متوقع، «يرتكب» تزانكو خطيئته الأولى عبر إخبار الشرطة. تبعث وزارة النقل مسؤولة العلاقات العامة جوليا (مارغيتا غوشيفا) للإشراف على تهيئة مظهر هذا الموظف النَكِرَة باعتباره مثال النزاهة، واستغلاله كأداة تسويق ضد تهم فساد نافذيها. هذه «حالة» إدارية مجنونة يتداخل فيها الرياء بالخداع الإعلامي، و «الحيلة السيئة» التي تأكل ذمّة الشابة جوليا بالتآمر الجماعي لفريقها والتي تقود جميعها الى «حالة» انقلابية أخرى تتعاظم فيها شكيمة تزانكو، متحوّلاً من رجل هامشي مُستغَل الى إرادة منتفضة ضد مهانته وضد خاطفي تراتب حياته وتناغمها. السبب أن الشابة الرعناء، التي تهتم أيضا بوقتها ودقته من أجل تحقيق انتصاراتها المهنية، أضاعت ساعة معصمه من ماركة «سلافا» الروسية الشهيرة، والحاملة على غطائها الخلفي الجملة الأقرب الى ضميره وتاريخه: «هديتي الى ولدي تزانكو». وبما أنه لا أحد يكترث حقاً الى»حالته العصيّة» المرتبطة بتذكار أبويّ لا يقدر بثمن، يقرر الشغيل المنكوب «خيانة» ما أرغم نفسه على التستر عليه: فضح انحراف من حوله.

الخطأ والصواب
لا يرتكب عامل الصيانة المُحقّر بطولة خرقاء وآثمة اجتماعياً، كما بطلة الشريط السابق للثنائي غروزيفا (مواليد صوفيا 1976) ـ فلشانوف (مواليد 1982) «الدرس» (2014) وسعيها الى تلقين سارق حقائب طلابها درساً في معاني الخطأ والصواب، لكن مع تعاظم مخاطر الاستيلاء على منزلها العائلي، بسبب فشلها في تسديد دين مالي كبير، تقدم على سرقة مصرف محلي! إنما ثوّر تزانكو حالة سكونه الشخصي ولا مبالاته وحياديته ولا تبدّله، محققاً فعلاً إصلاحياً يؤكد صدقه ويكرس شجاعته المغيّبة طوال زمن الفيلم (101 د)، ما يعرضه الى عداوات الجميع وعقابهم الدموي. هناك «حالة» درامية أخرى موازية لنظيرتها الخاصة بـ «أبله القرية»، يتركز تهكمها على مسعى جوليا وزوجها في الإنجاب عبر عمليات تخصيب اصطناعية، تتطلب مطاردة الأخير لامرأته من أجل ضبط مواعيد حقن الهرمون، أبلغ مشاهد هزئها المتفجّر، محاولات تستر جوليا بعلم الوحدة الأوروبية المرفوع في قاعة الاستقبال الكبرى للوزارة وخلعها ملابسها الداخلية تحت أنظار الموظفين والزوار بطريقة كاريكاتورية ضاجة بلمزها المسيّس.
تفشل الشابة في تحقيق حملها الموعود تورية على عصيان جسدي يعاند امرأة سيئة النوايا وإنتاجها لسلالة فاسدة، سبق أن قايضت مسؤولاً أمنياً نافذاً على جسدها مقابل تلفيق تهمة ضد تزانكو. إن جوليا هي وجه عمليّ لسلطة متخلّفة رغم أوروبيتها، وجائرة برغم نزعتها التوفيقية، وتحقيرية برغم تفاخرها بحرياتها المستعارة منذ سقوط كتلتها الشرقية وستارها الحديدي، مقابل مواطن مُهْمَل برغم تفانيه، ومُساء الظن به برغم لا انحيازه، ومُزدرى به برغم إِبائِه الذي سيقوده في نهاية المطاف الى سحب ذلك القضيب في وجه جوليا الرافعة له يدها والكاشفة عن ساعته الثمينة، بعد أن وجدتها مرمية عند قدميها داخل سيارتها! هذه حالة سينمائية لا خاتمة يقينية حاسمة لها، فالظلمة والصمت القاطعان يرفعان سؤالاً تشيخوفي الطعم: هل أخذ تزانكو بثأره أم بقي مرتهناً لمحنة المغبون؟

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى