مسامير وسام زكو تجربة رسام عراقي في أميركا

خضير الزيدي

منذ أن استقر الفنان العراقي وسام زكو في أميركا وهو يثير في رسوماته حساسية التاريخ القديم ورموزه المتعددة واضعا نصب عينيه الاهتمام بمرجعيات شكلية قديمة ليعلن عن طاقة فنية تحمل العديد من الشفرات داخل منظومته في معالم الرسم المعاصر وكأنه يستعير من التاريخ محمولاته السابقة.

لقد كان اعتقادي ذات يوم بأن الرمز المهم عند الفنان وسام زكو يكمن في أيقونة السيد المسيح وصليبه المفعم بالرمز الكوني، ولكن يبدو أن الاشتغال المعرفي لدى هذا الفنان أخذ حيزا فضائيا ودلاليا أوسع مما كنت أتصوره ذات يوم.

فالدلالة التي تثير مخيلة وسام هي مولّدة لشفرات كونية وخطوط امتد بها الزمن لتصبح خريطة تحتوي مشهدا تاريخيا. ومن هنا بدت أعماله الأخيرة التي بعثها من عمان وأميركا وكأنها قطعة من تاريخ يخضع لمعيارين الأول رمزي تتبادل فيه الأدوار من خلال طرح الشكل بطبيعته ومرجعياته، والثاني أسطوري يظهر لنا طرازا واسعا من التداخل التعبيري.

فكل لوحة تمتلك ذات الأيقونة في منتصف السطح التصويري بشكل دائري لها هيمنة ضاغطة على مسارب تأويل المتلقي أما الفضاء الإشاري الآخذ بقدرة ورموز لغات منسية، فهو الدافع الخفي لأصول المحمولات الثقافية والتعبيرية.

ولطالما أكدت كثيرا حيال تجربته بأنها تعيد قراءة تاريخ لحق بمحيطه الأذى فظلّ انسجام الشكل التعبيري للوحته مثقلا بمدونات الإحساس، بمعنى أن الكتلة الرسموية الظاهرة للعيان تستعير أثرها المرجعي من محيط هو الآخر أكثر ضغطا على نفسية وسام زكو من غيره، وربما الأيام ستثبت ذلك بأن كل العلامات المقدمة في إنتاج لوحته هي هضم قادم من حالة انتماء لأرض ولمحيط اجتماعي ولمركزية دين وكلها مؤثرات لها ثمنها في نفسية هذا الفنان.
وأحسب بأن الشفرات لم تكن قاصرة في بث إشاراتها من منطق تصويري بحت يراقب أقطاب التراكيب ومولداتها ضمن مستويات، بل كان على الأغلب توجهها يلوك بيقين البحث عن عناصر تكشف جمالية الرموز التي تغطي لوحاته، رموز تقترب من (مسامير دقت ذات يوم لتخلق صليبا وصليب صنع ليحمل رسالة من دم وصدق)، كلها دوافع تنفتح على قدرة في الأسلوب ورؤية في الكشف دون مغالاة وهذا المهم في عمله وكأنه لا يريد الإفصاح عن هويته الدينية ولا انتمائه بل يكرّس جهدا معرفيا ليؤكد هويته العراقية بمنظور يفصح لنا عن أواصر انتمائه واحتكاكه وشعوره.

إنها بنى تصويرية تحمل صليبها العراقي لكي تفي بوظيفتها التعبيرية عليها دائما، هي الثبوت أمام تقوّلات الوهم وعدم معرفة غاية وسام زكو من خلال هذه الأعمال الفنية الأخيرة التي تظهر لنا مهارة في التعبير.

وأعتقد أنه لو بقي هذا الفنان محافظا على هذا النمط من الفن لتمتع بقدرة كشف تغوي الآخرين وستكون زوايا النظر لأعماله غير قاصرة.

فوراء كلّ تلك التكوينات في الرسم مخيّلة طاردة للظن والشكوك، ومصدر تمتّعها بهذه الحكمة يكمن في تواصلها مع جذرها المعرفي ودراية بالتخطيط المسبق لما تؤول إليه الظنون، لكن مراتب الإشارات والعلامات والاستعارة الواضحة قدّر لها أن تجد علاقات تبادلية بين المخيلة والمنجز الجمالي، بحيث كشف لنا خطاب العلامة في رسوماته الأخيرة عن نتاج بنائية في الفكر وليس في الشكل وعلى أساس أن الطراز المعماري لتكويناته هو الباعث للوجه البصري، إلا أن مدلولات الرموز والشفرات تنبض ببقاء مؤثرات بدائية ظلت الشعورية تتسرب منها وهي أداة جمالية من جهة التكوين الشكلي ولوازم ووثائق تعبير فكري لانتماء (محيط ما) ليس بالضرورة أن يفصح عن هوية وسام وامتداده الرافديني، بل هو التواشج الحيّ المنسكب بين ثلاث طبقات، الأولى مرجعية تاريخية مكانية، والثانية دينية لها طرازها الجمالي الظاهر والروحي المخفيّ، والثالثة طبقة تجد علاقة بين الاثنتين لتحقق هوية تداخل نمط من التعبير يصاغ بانسجام مشدود إلى عاطفة تحافظ على التاريخي والأسطوري من جهة وعلى الرمز الديني من جهة ثانية.
لهذا ظل الكثيرون ممّن يتطلعون لرسوماته منشدين لجمالية الشكل، والظن بأن هذا الرسام يخفي في جوانبه خطابا دينيا يريد إظهاره على السطح التصويري من خلال رمز (الصليب /المسامير) لكن أثبتت لنا الدراسات القديمة حتى قبل ولادة المسيح بأن هذا الرمز يفصح عن صور وأشكال للتعبير الجنسي في مرحلة من تاريخ المنطقة الشرقية.

ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأن وظيفة الرمز ليست إيحائية بقدر ما هي وظيفة ذات قاعدة مرجعية، ولا بد من التذكير هنا بأن طروحات موكارفسكي (وهو من أعضاء مدرسة براغ ) اعتبر الفن بحد ذاته إشارة، وينطلق من فهم أكثر تأثيرا في مشهد التحليل السيميائي حينما يعدّ الإشارة أداة جمالية في الفن وليست أداة إيصال للمعنى. ولعل اللافت هنا كثرة الشفرات وتعميقها شكليا إذ يمكن أن تضيف مزيدا من معرفتها حينما تتكون لنا قاعدة تأويلية عن مصدرها وإنتاج معناه، وأنا أعي تماما أن ليس من مهمة الشكل الفني في الرسم هو جعل السطح التصويري عبارة عن صور وأيقونات، ولقد تنبّهنا منذ أن قرأنا أفكار بول كلي ساعة تصريحه المعروف “ليس على الرسم أن يصوّر المرئي بل أن يرسم اللامرئي” ومن هنا نجد بأن هذه الأشكال الرسموية الأخيرة لوسام تجاوزت إيقاع التعبير الواحد لتنتج درجات متعددة من حركة فعل ذات إدراك يكمن فيه الرعب لأنه قابل للتفاعل ومتشكل خارج حدود فكرته.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى