“اسمي عادل”

لمى طيارة
ليست هي المرة الأولى التي نتابع فيها فيلما يسرد السيرة الذاتية أوجزءا من سيرة ذاتية، لكاتب أو مخرج سينمائي، لكنها المرة الأولى التي يكون فيها المخرج ممثلا وبطلا لفيلمه الذي يروي قصة حياته.
ولد عادل عزب مخرج فيلم “اسمي عادل” في مدينة مغربية صغيرة، وعندما أصبح شابا صغيرا هاجر برفقة والده إلى ميلانو الإيطالية، وهناك التحق بالجامعه والعمل، وفي يوم من الأيام اكتشف حبه للسينما والتصوير الفوتوغرافي، فما كان منه في العام 2012 إلا أن أسسّ مع مجموعة من هواة السينما جميعة سينمائية تحمل اسم “إيماج فكتوري”، وهي الجمعية التي أنتجت فيلمه الأول “اسمي عادل”.
هذه قصة عادل الحقيقة التي أعاد كل من كاتبي السيناريو (جابريو رونيوني – وروبرتا فيلا) كتابتها، ولكن بتنويعات درامية مختلفة، بحيث لم يظهر الفيلم بصيغته النهائية على شكل السيرة الذاتية للمخرج بحرفيتها، وإنما بتنوع أكثف وأكثر درامية، بحيث بدا الفيلم في تلك الرواية يشبه إلى حد كبير قصص مئات من الأطفال المغاربة الذين ترّبوا وترعرعوا في بيئات فقيرة، كادت تنهي حياتهم، واستطاع القدر برفقة إرادتهم الطموحة أن ينقذهم من تلك المصيبة حين هاجروا بعيدا عن بقعة الأرض الصغيرة تلك، ليصبحوا لاحقا نجوما في عالم الفن وغيرها من الاختصاصات.
التصقت فكرة سينما المؤلف في الأذهان، لسنوات طويلة بأعمال السيرة الذاتية، والسبب في ذلك يعود للمخرج الإيطالي فلليني الذي كان يسرد سيرته الذاتية من خلال أفلام كتب بنفسه نصوصها، بعد أن كان كاتبا لسيناريوهات يخرجها الآخرون ، ففي العام 1960 بدأ فلليني مرحلة جديدة وعظيمة في تاريخ السينما ، جعلت منه لاحقا اسطورة سينمائية ، لا تدرس فقط وانما تقلد ويقتبس منها ،كما فعل الكثيرون في “سينما المؤلف” – الكاتب هو المخرج- ، والبعض في سينما المؤلف التي تتخذ من السيرة الذاتية عنوانا لها – الكاتب أو المخرج يروي قصته أو جزءا منها – كما فعل المخرج المصري العظيم يوسف شاهين.
حاول فلليني في خطوة كانت تعتبر جرئية حينها، استعراض كل ما يجول في خاطره من أفكار وأحلام، مقبولة ومتاحة أو غريبة وغير متاحة، الأمر الذي جعله عرضة للانتقادات رغم إعجاب الكثيرين به، تطرّق في أفلامه تلك لعوالمه الداخلية، على اعتبار أنه يسرد أحلامه وما تحكيه روحه في تلك الأفلام، الأمر الذي جعل الناقد الفرنسي أندريه بازان في بداية الخمسينيات يطلق عليها مصطلح “سينما المؤلف” وذلك في معرض حديثه عن فيلم فيلليني «ليالي كابيريا»، أردت التعريج عل هذه المعلومة، لأن أفلام فلليني صاحب ومؤسس هذا النوع من الأفلام، أخذ عليها أنها سينما مغرقة في الشخصية، كما كل الأفلام لاحقا التي أخذت أسلوب السيرة الذاتية مضمونا لها، وخير مثال على ذلك عربيا وكما ذكرنا سابقا، يوسف شاهين حين قدّم بضعة أفلام تتناول حياته، من خلال قصة مخرج سينمائي ناجح، بدأها بفيلمه “إسكندرية ليه”، وسرد من خلالها سيرتها الذاتية مذ كان طفلا، ويبدو أن المرض حينها وربما الخوف من الموت الذي كان يلاحق شاهين بسبب عملية القلب المفتوح، دفعه ليخرج فيلما يسرد فيه هواجسه وحياته كتخليد لنفسه، وهي نوع الأفلام كما يعترف فلليني نفسه، يقوم بها صناعها كنوع من إرضاء للنفس وتخليدا لها ، حتى أنها تتميز بالسريالية في بعض الأحيان لدرجة يصعب فهمها وربما قبولها من الجمهور وبالتالي تفقد جماهيريتها في شباك التذاكر وتبقى حبيسه النخب والمهرجانات الدولية والعربية، أو حتى المتخصصه في هكذا نوع من الأفلام (مهرجانات سينما المؤلف).
إلا أن فيلم “اسمي عادل” ورغم خوضه في جزء من السيرة الذاتية للمخرج عادل عزب الذي لا يزال مخرجا مغمورا على الأقل في الاوساط الثقافية المغربية، على اعتباره من مغاربة أوروبا، قدم موضوعا يُشكِّل قاسما مشتركا للكثيرين من الأطفال في بعض القرى والمدن العربية بشكل عام وليس فقط في المغرب بشكل خاص، وجاء بتجربة فريدة من نوعها، ليس من حيث الطرح، ولا حتى من حيث أسلوب السرد الذي كان تقليديا إلى حد ما، وإنما من حيث عذوبة الفكرة وبساطتها، وجمالية تصويرها فنيا، ففيلم عزب الذي استطاع ان يأسر قلوب لجنة التحكيم العربية في مهرجان إسكندرية، ليس فقط مُقدّم بميزانية واضح أنها متواضعة، وإنما أيضا لم يعتمد مخرجه على أبطال معروفين يحملون الفيلم على أكتافهم، واكتفى هذا الشاب المغامر بأبطاله من الأطفال، محور القصة، وماهيتها.
فهم أصحاب تلك المعاناة وأصحاب تلك القضية، ومعظمهم قّدر له أن يعيش حياة الفقر والعدم، في تلك القرية الصغيرة، التي لا يمكن أن تتجاوز فيها طموحاتهم اللعب في الطرقات ورعاية الأغنام ،إلى أن يزورهم في يوم ما مصور ليلتقط لهم صورا، فيكتشفون حينها ماهية الكاميرا والعرض، يتابعون أنفسهم ويضحكون على صورهم، والطفل عادل حينها كان واحدا من هؤلاء الأطفال، الذين يقررون التمرد على العائلة وعلى هذا العمل الشاق والمضني والذي لا يحمل بوادر مستقبل، وبدعم من أحد أفراد العائلة، يقرر الرحيل بعيدا، ليعمل ويتعلم وليصبح أستاذا جامعيا، ثم يأتي يوم ويروي لتلامذته قصة كفاحة ونضاله.
وتندمج الفكرة الروائية بالوثائقية لدرجة يتساءل المشاهد هل أبطال هذا الفيلم هم أبناء هذه البيئة الفقيرة والمعدمة والمخرج جعل منهم نجوما؟ أم انهم فعلا ممثلون يؤدّون دورهم المكتوب لهم في إطار عملية الخلق الفني، ومهما كان الرد فهذا ليس هاما، لأننا ضحكنا معهم كثيرا والتقطنا معهم سعادتهم المفرطة بدخول هذا الحدث الجديد على بيئتهم وثقافتهم.
في النهاية استطاع السيناريو برفقة المخرج أن ينقلنا نحن كمشاهدين لنصبح جزءا من ذاكرة هؤلاء الأطفال وتلك القرية التي مازالت تحتفظ بحياتها البائسة حتى اليوم، وخاصة مع تكرار وجود نفس الأطفال رغم مرور الزمن، في إشارة من المخرج إلى أن التاريخ مازال يعيد نفسه، ونفهم أن على الإنسان أن يكون كما عادل الصغير الذي عاد رجلا لقريته، طموحا مطارداَ حلمه، مغرداً خارج سرب القرية ساعيا بكل جهد لتغيير حياته ومستقبله الذي وصل له حقاً.
الجدير بالذكر أن الفيلم شارك مؤخرا في المسابقة العربية لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط وحصل على تقدير أحسن فيلم عن جائزة “نور الشريف” .
(الجزيرة الوثائقية)