«الكولاج» وتوظيف الصورة في تجربة الفلسطينية منال ديب

محمد حنون

في الفنون البصرية الفوتوغرافية ثمة مدارس كثيرة ومتشعبة ومتداخلة، وتطورت مع تطور التقنيات الفوتوغرافية، عبر ما يقارب المئتي عام الأخيرة، منذ تحقيق أول صورة ناجحة على يد الفرنسيين نيبس وزميله داجير عام 1826، مرورا بالنهضة الفوتوغرافية الواقعية في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا، وليس انتهاء ببداية العصر الفوتوغرافي الملون في نهايات القرن التاسع عشر ودخولا في القرن العشرين، على يد الفوتوغرافي والمخترع الفرنسي لويس هورون، بدءا من نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر وصولا لنهاياته، من خلال المصورة الإنكليزية ساره آكلاند، التي التقطت الصورة الملونة الشهيرة للكولونيل ويلوبي فيرنير عام 1903، حيث اعتمد هورون بذلك على تطوير تقنية التصوير ثلاثي الألوان، التي كان أول من اخترعها وقدمها هو الأسكتلندي جيمس ماكسويل عام 1855، إذ أن أول صورة ملونة فعليا وناجحة ولكن بجودة متدنية، كانت قد قدمت عام 1861 على يد الفوتوغرافي الإنكليزي توماس سوتون، وكان قد نفذها على طريقة ماكسويل كما أسلفت، وصولا للعصر الفوتوغرافي الرقمي منذ نهايات القرن العشرين.
يعتبر الفوتوغراف فنا حديثا، على الرغم من قرنين منذ نشأته مقارنة بالفنون البصرية والأكاديمية والتطبيقية الأخرى. في الفنون التشكيلية، سواء تلك التي تنفذ حسيا على لوحة أو تلك التي نشأت لاحقا عبر التقنيات الرقمية، ثمة استخدامات كثيرة للكاميرا والصورة الفوتوغرافية، ما بين التحرير الرقمي والإضافات الجمالية الرقمية، واستخدام الصورة الفوتوغرافية كمادة خام على سطح اللوحة، ليتم استخدامها كبناء مركزي للمفهوم الذي يشتغل عليه الفنان، ولتوظيف مفردات الصورة البصرية؛ بكل معطياتها الرمزية والجمالية.
في تجربة الفنانة البصرية الفلسطينية منال ديب ثمة توظيف عميق للصورة الفوتوغرافية، سواء تلك التي التقطتها الفنانة بنفسها، أو تلك التاريخية أو التي التقطها غيرها، حيث تقوم ديب بالعمل على الصورة الفوتوغرافية بوصفها فضاء مفتوحا للحكاية التي لا تحتمل التأويل.
تنتقي الفنانة صورها بعناية، متحرية عناصر كثيرة في الصورة لتخدم فكرة العمل الفني، وغالبا ما تكون الفكرة تتعلق بشكل جذري بالقضية الفلسطينية و«الدياسبورا» الفلسطينية، ودون أن تهمل الناحية الفنية في العمل.
تبحث ديب في أعمالها عن أجوبة، أكثر مما تقوم به من تقديم أسئلة، كما هو دارج في المقولات الفنية والنقدية حول الأعمال الفنية، فالأسئلة بالنسبة لها مقدمة ومطروحة تاريخيا من قبل شعب بأكمله، وهي كفنانة تنتمي لهذا الشعب، ترى أن دورها هو البحث عن الأجوبة أو تحريض المتلقي للعثور عليها، من خلال تضمينات بصرية فنية داخل أعمالها. حيث تقوم ديب، التي شاركت مؤخرا في معرض جماعي في العاصمة الأمريكية واشنطن ضمن مهرجان «أرابيسك»، بتوظيف الصورة الفوتوغرافية رقميا وماديا في أعمالها للخروج بخطاب بصري محمولا على مفردات سياسية وإنسانية وثقافية وفنية، لترسخ من خلالها في وعي المتلقي الهم الفلسطيني وهوية وحقوق شعب لا يزال يبحث عن ملامح لنهاية معاناته.
كثير من الفنانين والفنانات قاموا باستخدام تقنية «الكولاج» وتوظيف الصور الفوتوغرافية فيها، بمختلف أشكال طباعتها، من صفحات الجرائد والكتب وأغلفتها، أو على الأقمشة والمواد البلاستيكية، بالإضافة للصور المطبوعة على ورق خاص بالفوتوغراف، كتيار جديد في الفن الحديث، على الرغم من بدايته المبكرة في مطلع القرن العشرين. من أسباب لجوء الفنانين لهذا النوع من البناء التكويني البصري وتوظيف الصورة الفوتوغرافية، هو جعل المتلقي يعيش ما يمكن وصفه بالصدمة الحِسِّية؛ عند الانتقال ما بين وسيط وآخر في العمل ذاته، وهو ما ذهب إليه الناقد والفنان التشكيلي المصري محسن عطية في كتابه «التفسير الدلالي للفن» في معرض تحليله لتجربة بيكاسو في أعماله الزيتية التي تضمنت الكولاج، وهو ما يمكن تطبيقه كذلك على الأعمال التشكيلية التي تتضمن كولاجا فوتوغرافيا، سواء كانت أعمالا رقمية أو مباشرة على «الكانفاس».
سيكون تقديم الفنانة منال ديب وأعمالها التي توظف فيها الصورة الفوتوغرافية؛ على أنها فقط تتناول القضية الفلسطينية بكل جوانبها وإرهاصاتها السياسية والحقوقية والتاريخية والثقافية، تقديما غير مكتمل، حيث ثمة أعمال للفنانة تتناول الجانب الإنساني بمفهومه الكوني، وتتناول العديد من قضايا حقوق المرأة والطفل، وثمة أعمال فنية لإبراز الجماليات بشكل مجرد ومن أجل الفن، أيضا من خلال توظيف الصورة الفوتوغرافية بشكل أساسي. إن مواظبة ديب على توظيف الصورة الفوتوغرافية في كل أعمالها، وهو ما يمكن اعتباره هويتها الفنية وأسلوبيتها، كاعتراف ضمني من فنانة تشكيلية بالطاقة التعبيرية للفوتوغرافيا بمعطياته الواقعية، وهو ما يشكل ركيزة للحيز البصري في أعمالها من أجل بناء لوحتها التشكيلية.
على الرغم من أن بعض أعمال الفنانة التشكيلية منال ديب تستخدم فيها صورا فوتوغرافية من تصويرها، إلا أنها وبفهم واع للتعريفات والتصنيفات الفنية، لم تقدم الأعمال هذه كصور فوتوغرافية، ولم تقدم كذلك نفسها مصورة فوتوغرافية، وهو ما يعكس عند الفنانة ذلك الوضوح والنضج في التعامل مع الصورة كواحدة من الوسائط الكثيرة «ميكس ميديا» التي يمكن استخدامها في اللوحة، وكذلك الوضوح في التعامل مع الكاميرا كأداة من أدواتها جنبا إلى جنب مع الفرشاة والسكين، وهو ما نجده في مقولة الفنانة الأمريكية الأفريقية ميكالين توماس التي توظف في بعض أعمالها الفنية الصورة الفوتوغرافية، حيث قالت «لا أرى نفسي مصورة فوتوغرافية. لا زلت أرى الصورة الفوتوغرافية والكولاجات التي أستخدمها كمصادر لإنجاز اللوحة المرسومة». تعتبر الفنانة الفلسطينية منال ديب، المقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، من الفنانات العربيات القلائل اللواتي تمكنَّ من خوض هذا النوع من الأعمال التشكيلية الرقمية والملموسة، ومن استخدام الصورة الفوتوغرافية بهذه السوية؛ كرافعة بصرية لبناء أعمالها، متخذة الصورة الفوتوغرافية بؤرة جذب لعين وذهنية المتلقي، وعنصرا رئيسيا لبروز مفاهيمية العمل.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى