«صداق العيساويات» لمجيدة بن كيران: استغوار أنطولوجي للكينونة والوجود

إبراهيم الحجري
انبثقت المجموعة الشعرية «صداق العيساويات» للكاتبة والفنانة المغربية مجيدة بن كيران من رحم التعدد، الذي يسم التجربة الإبداعية لديها، فبعد النجومية التي حازتها، عن جدارة واستحقاق، في السينما والمسرح، وفي مجال التمثيل خاصة، عادت لتفتش في الذات، عن سؤال الإبداع الكتابي الذي بات يهجس في خاطرها، ويحسّسها بأنه الوطن الأول، والحضن الأول، والجغرافيا البكر التي اتّسعت لرحابة موهبتها الفطرية، منذ تلك البدايات الأولى، في مدينة تازة، العبقة بالتاريخ والذكريات والحياة المشبعة بدفء الأسرة، ودهشة اكتشاف العالم.
ولأن الكتابة كانت الراحة الأولية التي ربتت على مشاعرها، وقادت عنفوانها بصدق نحو الآفاق الممتدة، قبل أن تحترف المسرح والسينما، وتحصد فيهما نجاحا باهرا؛ قادها لتشكل شعبيتها الكبرى مبكرا بفعل صدقيتها، واختياراتها الفنية ذات البعد الإنساني الهادف، فإنها سرعان ما عادت إلى عشّ البدايات، عشّ الكتابة التي وجدت فيه امتلاء مضاعفا، وإحساسا مفرطا بالحياة والوجود. فإذا كانت في الاختصاصات الأولى تجد متعة في تشخيص المكتوب، والحلول في المواقف والانفعالات، وتجسيدها ناطقة أمام الآخرين، فإنها عبر الكتابة، لا تقول سوى ذاتها المفرطة الحساسية، وأناها المتعددة المسكونة بحيوات الآخرين وبأسئلتهم الحارقة، المتبّلة بانفعالاتهم وأنينهم ومطامحهم، وهم يصْلون سعير الواقع، ويكتوون بناره، أو وهم يحفلون بأفراحهم الصغيرة التي سرعان ما تذوب في واقع سريع التحول.
تنوع مجيدة في كتابتها بين جنسي الشعر والسرد، فقد صدرت مجموعتها القصصية «أن تحلم… كما الأسماك» منشورات عكاظ سنة (2001)، وبعدها نشرت مجموعتها الشعرية الأولى المعنونة بـ»زنقة مقهى الباشا» عام (2006)، قبل أن تصدر في تونس مجموعتها الشعرية الثانية (إصدارها الثالث) «صداق العيساويات» في تونس، وبدعم من وزارة الثقافة التونسية سنة (2016)، وهي مجموعة استضمرت في طياتها، ملامح جديدة من التجديد والاجتهاد على مستوييْ الشكل والرؤية، مقارنة بالمنجزين السابقين، حيث نلمس ذلك على مستوى التّحول اللّغوي، وعلى مستوى تشييد الصّورة الشّعرية، وعلى مستوى انتقاء العوالم التخييلية المسرودة شعريا، دون أن ننسى الرؤية المشكّلة للخلفية الثقافية التي تصدر عنها مثيرات الشعور، ومحفزات المعنى في تمثيل الخطاطة الشعرية داخل المتن.
خطاب لغوي مفارق:
تبئر الشاعرة مجيدة بن كيران مقولها الشعري بعتبة عنوانية مثيرة للتساؤل حول طبيعة هذا الخطاب، خاصة أنها عتبة تحتفي باللغة العامية التي ترتبط في الأصل، بلغة الخطاب اليومي، وبالزجل باعتباره قالبا شعريا يتسع لاحتواء الدفق الشعري الشعبي باللغة الأقرب إلى الجماهير. فأول انطباع يحمله هذا المناص إلى القارئ، هو كون العمل يندرج ضمن النوع الشعري الزجلي، لكن هذا التمثّل سرعان ما يتبدّد، بمجرد أن تقلب أولى صفحات المجموعة الشعرية.
وهذا يعني أن اختيار القالب اللغوي لعتبة العنوان أمر مفكر فيه، مع سبق الإصرار والترصد، للتدليل على ألا فواصل ولا حدود بين اللغات والأصوات في النصوص، التي تجتمع بين دفتي الديوان، فكل الخطابات، على تعددها وتنافرها، قابلة للتطويع داخل المنجز الشعري، بفعل الدفق الناظم، والدلالات المنسكبة في النسق الكلي، وللبرهنة على أن القصيدة كما تصمّمها بن كيران وتفكر فيها، لا تفاضل بين خطاب وخطاب أو بين لغة ولغة أو بين صوت وآخر إلا بما تستطيع هاته العناصر مجتمعة أن تفجّره من مخزون دلالي وإيقاعي وتداولي.
إن القالب الشعري أو الشكل المميّز للخطاب، بلغاته وضمائره ومنسوجه النصيّ، ليس غاية في ذاته، بل هو قنطرة ومعبر وقناة لتوصيل خطاب، أو لبلوغه، فبقدر ما تكون هاته العناصر الناظمة للخطاب دلائل على معان، ومشيرات على أفضية وأزمنة وأحداث، ومحيلات على ذكريات ولحظات متمنعة، ومتحصّنة في اللّاوعي، فهي أيضا مثيرات ومحفزات للتذكر، ومعينات على بلوغ استيهامات، واستبطان أحلام منسية، واستغوار أحاسيس كامنة ضيّعتها السّنون والمسافات والانشغالات وسط حُمّى العمر الشّارد.
رحلة الأنا الشاعرة في الزمكان:
اختارت الشاعرة لملفوظها الشعري قالبا أضحى مغريا للكتاب في كلّ الأجناس والأنواع الأدبية، وهو قالب الرحلة، أو المشهد السّفاريّ ذو البعد الثقافي الصوفي، لتوسّع أفق المكتوب، وتمنح تخييلها خصوبة وغنى، وليتهيأ لها الإبحار، دونما تحفظات شكلية تمليها التقاليد الشعرية، في الأمكنة والأزمنة لمطاردة لحظات هاربة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فبدا الملفوظ الشعري متسربلا بأنفاس السّرد والتّوصيف والتّذكر والحلم، في شكل أطياف متداخلة، وطبقات متدرّجة بين هذه المكوّنات، حسب الحاجة التي تمليها اللّحظة الشّعورية، والمتطلّب التّعبيري، وتبعا للانخراط الانفعاليّ بالشّرط الإبداعيّ وإبدالاته، لكن الرحلة التي تلحم مفاصل النص، والتي تختط تقاسيم مسالكها وخرائطها من تجربة معيشة، ومن إحساس مفرط بالعوالم المرتادة سلفا، ليس الغاية من وراء استدعاء شكلها (الرحلة) تدوين محكيّ سفريّ سالف بغرض توثيقه، وانتشاله من براثن السّهو والنسيان، بل الهدف من ذلك، هو توسيع المتخيل الشعريّ، وإعطاء العامل الباثّ فرصة أكبر لاستغوار المنسيّ، والقبض على العصيّ والمنفلت من الذكريات والمشاعر والأحاسيس، والتالف منها في اللاوعي والأحلام والذاكرة المثقوبة.
لم تكن الرحلة الشعرية في «صداق العيساويات» استتباعا لمذكرات سفرية، واستكشافات قامت بها الذات في مناسبات وتجارب مختلفة ضمن أفضية وجغرافيات ثقافية متنوعة فحسب، بل هي أيضا، ارتحال في المشاعر واللحظات الموازية لهاته التجارب، والترسبات الجوانية التي تذكيها الاحتكاكات المباشرة مع عوالم السفر في الحياة، وهذا ما لا يستطيع التقاطه وانتشاله من غيابات السهو واللاوعي، غير الكتابة الإبداعية، لأنه مخزون داخلي، وتوهج إشراقي، ومجاهدة صوفية، لا تستغور بالانفعالات الخارجية فحسب، بل يلزمها صفاء نفسيّ، وارتحال في معتمات الذات اللاواعية، وخلود إلى الحواس الأصيلة في غير ما افتعال للمشهد البراني، ومقارعة مضنية للشوائب والمشوشات، وتحرير للجوارح، وأعماق الروح، وهذا ما تضطلع به الكتابة الشعرية هنا، في «صداق العيساويات».
لكل مكان وكل مدينة صداقها الروحيّ، المنبثق عمّا يستطيع خلخلته في الذاكرة والنفس من لحظات ترتبط بالوجدان أو بالمقروء أو بالمتوارث، مدن وأماكن كثيرة يحتفي بها المنجز، تنتمي إلى جغرافيات مختلفة، منها ما ينتمي إلى الوطن (فاس، تازة، تارودانت، أكادير، الصويرة، فكيك، البيضاء، تطوان، تازمامارت، وزان، سلا، الرباط، العرائش، أزمور، مولاي عبد السلام بن مشيش، مكناس، مارتيل، واد لاو، الشاون، طنجة، أوزود) ومنها ما ينتمى إلى جغرافيات برانية مثل: (أثينا، باريس، غرناطة، لبنان).
وللذكر، فالذات الشاعرة؛ وهي تلامس نفحات هاته المدن، ما كانت تتحرك بذاكرتها القصيرة مع المكان، بل كانت تجرّد كلّ حواسها الدفينة لاستنشاق عبق التاريخ، واستنطاق روح التصوف، وكرامات حرّاس هاته المدن من أولياء وصلحاء، أو التماهي مع طقوس المكان الروحية التي يشتهر بها في المنظور الشعبي أو العالم.
القبض على اللحظات المنفلتة:
تشكل المشاهد الشعرية سفريات حرّة متعددة الأبعاد والاتجاهات، سفر في الذاكرة، سفر في الطفولة والحلم، سفر في لاوعي اللغة، سفر في المكان والزمان، سفر ثقافي في جغرافيات مختلفة تهيئ للأنا الشاعــــرة ارتيادها في إطار المشاركة في فعاليات مسرحية أو سينمائية، وتركت صداها البعدي أو الآني في النفــــس، وفي الخيال، وفي الروح. كل جغرافيا تجد الذات نفسها مدينة لها بتحريك انفعال أو نبش منسي في اللاوعــــي، أو انتشال لمحكي ضاع في الذاكرة من قبيل استرجاع محنة المرأة الموريسكية بقولها: (فواكه لا تنتمي لفصولها/ لا العنب الناضج يغني للخريف/ ولا الرمان غير الناضج يستنجد/ بزرياب/ حين يرحل الموريسكيون/ الغيمة البيضاء لا تمطر/ والسوداء مثقلة/ مثل أميرة شامخة/ تتكئ مع وسادتها وحيدة/ وبين ضلوعها، افتضاض» (صداق العيساويات).
وليست مجيدة بنكيرة الأولى من الشعراء والكتاب من استند إلى قالب الرحلة، لقد سُبقت بتجارب أخرى لشعراء مارسوا هذا الطقس الكتابي لرفد متخيلهم، وتوسيع أفق المحكي الشعري لديهم، لكن صاحبة «صداق العيساويات» تختلف عن سابقيها، في كونها تستكشف عوالم سفرياتها الواقعية والمتخيلة والحلمية والاستشرافية بوعي طفولي، ونفَسٍ فطريٍّ، وانفعالٍ تلقائي بتلك الانفلاتات اللحظية الهاربة، وكأنها لا تسترجع الزمن الشارد بوقائعه وترجيعه وأصدائه حسب، بل إنها، تستعيد، مع تلك اللحظة المقبوض عليها، بالموازاة، انفعالاتها الآنية، ووعيها اللصيق بها، في بساطتهما وصدقهما، وهذا لن يتأتى إلا لشاعر أو كاتب خبر التجسيد والتمثيل، وتمرّن على محن الالتحام بالسياقات والمشاهد، وعانى ألم تمثل التجارب المختلفة للإنسان. تقول الشاعرة مصورة هواجس الطفلة التي كانتْها، وهي تعبر غير بعيد عن أماكن ومراتع الطفولة: (الكتلة والفراغ/ الظل والضوء/ العمارة والنحت/ تموج بين المسرح والتشكيل/ والعدسة تضيق زاوية رؤياها/ كلما طال بعدُها البؤريُّ/ والصورة هاربة من ذهب الإطار/ تتبعني/ من حيث لا أريد.. وأريد). (صداق العيساويات)
وهكذا يمكن أن نقول بأن الكتابة الإبداعية مثلما ساهمت في إثراء مسار مجيدة بن كيران الممثلة والفنانة والمخرجة، بدُفق فنية وإحساسية، فإنها، في الآن نفسه، تغذّت من خبرة الشاعرة في هذا المجال التّصويري والتمثيلي والمحاكاتي. وهذا التعدد، والغنى في التجارب الفنية والإبداعية، والمناشط والممارسات الثقافية، هما ما هيآ للشاعرة قدرة خلّاقة في استنطاق العلامات الكامنة في اللّاشعوري والمنسيّ والمنفلت، وتحريك الترسّبات الغائرة في اللّاوعي الذاتيّ والجمعيّ على السواء، وتحويل الكلّ في لغة مخلوطة بنفس انفعالي يرتبط بلحظة التشكل الأولى، وسند بلاغيّ لمّاح وخفيف، بلا تعتيم ولا تعقيد.
(القدس العربي)