جنان باشو تواجه عنف الحرب بشظاياها

مهى سلطان
لعلها صرخة مدوية ضد العنف والقتل والمجازر تلك التي أطلقتها الفنانة جنان مكي باشو (من مواليد العام 1947) في معرضها الذي أقامته في غاليري صالح بركات (كليمنصو) بعد سنتين ونيف من العمل على صفائح الحديد بين تقطيع وتلحيم ووصل وتكوين، في محترفها الذي انقلب إلى ورشة صناعية، تزدحم بقطع الخردة والشظايا التي جمعتها من مخلفات الحرب اللبنانية والقصف الإسرائيلي على بيروت العام 1982. وكانت المحصلة مجموعة كبيرة من المجسّمات المعدنية التي تنقل للعيان صورة مصغّرة عن مشاهد القتل والحرق والسبي وسفك الدماء والمجازر التي ارتكبها داعش وما زال، للإشارة إلى أن هذا الزمن هو زمن حضارة مغايرة لمفهوم تقدم الإنسانية. من هنا جاء عنوان المعرض “حضارة” ضرباً من ضروب العبث والاستهزاء، في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلوماتية والاتصال والتواصل الاجتماعي. هكذا تأخذ الصفة معنى مضاداً للتقدم كي ترتدي مفهوم التخلف والهمجية والتوحش الإنساني والتراجع الحضاري.
تشكل الأعمال مقترباً مباشراً من الواقع العَيْني، من خلال استعادة الصور المتلفزة التي خرقت الضمائر بعنفها ودمويتها، عبر مشاهد الإعدام الجماعي بحد السيف، والمعتقلين داخل الأقفاص الحديدية، وحرق الأحياء فضلاً عن استحضار الأدوات العسكرية من مركبات مدججة بالمدافع ودبابات ومجنزرات يعتليها المقاتلون وهم مقنعي الرؤوس مثل روبوتات قاتلة مع رايات ورشاشات وحركات الأيدي التي تلوح بالانتصار والتفوق في التفنن بالقتل.
تدين المظاهر التي ترويها جنان باشو، بطابعها السردي لأهمية المشهدية “المكانية” في فن التجهيز، أي طريقة العرض التي استحدثها صالح بركات لموقع جغرافي برمائي عبارة عن كثبان رملية ومنحنيات ومساحات زرقاء وأخرى جرداء قاحلة، حيث تم فيها توزيع المجسمات وتقسيمها إلى ثلاث مجموعات، لكأن الموضوع ينقسم على ذاته أكثر من مرة، وينمو باتجاهات متفرقة، بحسب تتالي الأحداث نفسها، من مشهد غرق المهاجرين غير الشرعيين في القوارب المطاطية عرض البحر، ثم مسرح انتشار قوات داعش بعتادها العسكري، وفي زاوية أخرى مشهد الإعدام الجماعي. لكأنها مشاهد جهنمية للموت المحتوم الذي يقتلع ويهجّر ويحاصر الإنسان في كل مكان وهو يلقي على الزمن المعاصر ظلالاً رمادية قاتمة. ذلك ما يجعل المنظر الكلي للموقع شبيهاً بماكيت مصغرة لهندسة الحضارة المستجدة، بل كأنه ساحة المعركة في مفهوم ألعاب الأطفال أو مشاهد افتراضية للحيل الوهمية في برامج تحمل مسمى Games. هكذا تتبدل استراتيجيات الحروب من لعبة الكبار أو لعبة الأمم، التي أحالت خريطة الشرق الأوسط إلى بؤر غليان وأحداث دامية وحروب مفتوحة على المجهول، إلى ما يشبه التفجير الدموي المتنقل بين بلدان العالم، الذي يثير الرعب والصدمة والسخط كرموز للحضارة الجديدة.
جنان مكي باشو تكتفي بالوصف وتترك لنا الخيار كمشاهدين أن نستعيد خيوط الأحداث كلٌ بطريقته، وهي تحاول قدر استطاعتها أن تحاكي الواقع بفجاجته وهوله، بسذاجة تبسيطية وأسلبة للأشكال الحديدية التي صنعتها بوسائل متقشفة بعيدة عن الصقل والتشكيل والتنميق الجمالي الذي قد لا يعوزه الموضوع، ربما لأن النحت ليس غرضها أو مهنتها التي تحتاج إلى التفكير بوسائط التشخيص والأسلوب التعبيري ومعالجة الأحجام ومسائل التكوين الجمالي، بل أخذتها الفكرة concept إلى الأمكنة الصعبة وبالتالي إلى تكرار الوحدات والعناصر في اشتغالها على خامة قاسية، كي تستوحي من صلابتها حالة وجدانية تخاطب الضمير الجماعي، لمواجهة العنف بموقف اعتراضيّ.
الحكاية بدأت لديها من لعبة عبارة عن سيارة من الحديد صنعتها لحفيدها بغية التسلية، ثم ما لبثت أن قادتها عفو الخاطر إلى تكرار التجربة باتجاه مشروع يستعيد ليس أحداث الحاضر فحسب، بل أهوال الماضي وذكريات القصف والقنص وخطوط التماس أثناء الحرب الأهلية اللبنانية التي دفعتها بعد دمار منزلها إلى الهجرة لسنوات طويلة إلى أميركا وفرنسا قبل أن تعود نهائياً إلى بيروت. وكأن ذاكرة الحرب لم تبرأ من جروحها بل أن بروقها لا تزال تعصف في بئر وحدتها بحثاً عن منفذ لم تجده سوى في التنقيب عن أركيولوجيا الخرائب وآثار الحروب. لذا نستطيع أن نتفهم استعادة الفنانة للتكاوين التي صممتها من شظايا القذائف الإسرائيلية- تلك الشظايا التي سبق ولملمها فنانون كثر في حينها من بينهم نحاتين معروفين- وأخذت تستوحي أشكالها الانشطارية التجريدية من تلقائها، لتربط في ما بينها وتصنع منها قامات متنوعة لأشجار الأرز، رمز لبنان الخالد عبر العصور. ومن باب تغيير هوية الأثر الدلالي أخذت جنان الواقع إلى طاولة المشرحة في قراءة مباشرة للواقع بكل فظاعته، ولو أن التجربة استمرت أكثر لكنّا قرأنا ليس شعارات الموضوع، بل ملامح التجريب التقني أيضاً على صوغ القطع المعدنية (من حديد وبرونز) التي لاحت ملامحها مع مظاهر القولبة ثم التخريق للسطوح وكذلك التحرر من سطوة المادة نفسها لإظهار المعاني الفنية غير المباشرة وغير الانفعالية لمسائل التشكيل في فضاء ثلاثي البعد، صوب رموزية يمكن أن تعيش أكثر حين تتخطى الآني العابر كي تخاطب كل مظاهر العنف الذي يرتكب بحق الإنسانية.
(الحياة)