‘القطيع’ فيلم يطرح قضية الاغتصاب في قالب سينمائي مدهش

حميد عقبي
يروي فيلم “القطيع” للمخرجة بياتا جاردلير الذي عرض بمهرجان القاهرة السينمائي الأخير، قصة فتاة مراهقة، جنيفير، تتهم زميلها، ألكسندر، باغتصابها، لكن لا أحد يصدقها، حيث يحظى ألكسندر بدعم وتضامن زملائه وزميلاته وأهل القرية، لتجد الفتاة نفسها منبوذة ويتفنن الجميع في معاقبتها والسخرية منها، أي أن العقوبة ترتد عليها لعجزها عن إثبات واقعة الاغتصاب، فتتحوّل حياتها إلى جحيم، وبعد براءة المتهم تقرّر أن تنتقم لنفسها، وقبل لحظات من النهاية التي نتوقعها دمويّة ومرعبة نرى الصبي المراهق يكرّر جريمته، ليغتصب فتاة أخرى.
ما نراه على الشاشة ليس مجرّد حكاية عابرة وليس توثيقا لحالة حرجة وقضية هامة، هنا السينما تمرّر الكثير من الأفكار وتناقشها معنا، وهي تطالبنا بأن نقبض على جوهر المشكلة، فنحن نعيش حالة من التوتر تجعلنا في حالة شك، جنيفير هذه الشابة الصغيرة تبدو كأنها مقاتلة تطلق الصرخات، لكن صدى هذا الألم يبدو ضعيفا ولا أحد يعيره أيّ اهتمام، رغم أنها تلفت نظرنا إلى قضية الاعتداء الجنسي على الأطفال والقاصرات.
وفي المقابل يخذلها المجتمع الذي تعيش فيه تحت سقف هذه القرية الصغيرة، حيث نرى أجواء التحضر، فلسنا في مجتمع بدائي ومعزول أو متخلف، هنا كل شخص يعرف الجميع ويتواصل الشباب في ما بينهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد خروجهم من مدرستهم، كما أن الكبار كثيرا ما يجتمعون في الكنيسة والمناسبات، ونرى وجود مظاهر الصداقة، لكن هذه الحادثة تكشف أن هذا التماسك مجرّد مظهر شكلي وأن هذا المجتمع ينقصه التفاهم والعدالة.
جنيفير في الفيلم ليست ضحية ذلك الصبي المراهق ألكسندر وحده، فهي تجابه عنف الكل وتظل تجابه أمواجا غاضبة بيدها الضعيفة ولا تملك أيّ سند أو مساعد.
تضعنا المخرجة في مأزق صعب بعدم تصويرها وعرض مشهد الاغتصاب، رغم أنه اللبنة الأساسية ومنصة إطلاق بقية أحداث الفيلم، كما أننا لا نلمس أيّ تأكيدات ولا أيّ نفي أو تكذيب لحدوثه.
تجعلنا المخرجة في حذر دائم وفي وضع غير مريح، فلا أحد يعرف الحقيقة، المتهم هذا المراهق يمتلك عائلة تدعمه بقوة وله شعبية، بينما الفتاة مهمشة تقريبا ولا تملك أصدقاء، كما أن الضحية وحيدة ومعزولة وتحولت قصتها إلى كابوس يقلق أمها ويعكر صفو حياة شقيقتها الصغيرة، فالتعاسة تجرف هذه الأسرة الصغيرة التي لا تملك سوى الحزن والبكاء، خصوصا بعد مغادرة رفيق الأم ليلتحق بصف القطيع الظالم.
جريمة بلا عقاب
تفقد جنيفير خلال هذه المعركة صديقها الوحيد ذلك الحصان الذي يبدي تعاطفه معها، العلاقة هنا فيها الكثير من العاطفة ويبدو أن هذا الحيوان هو الكائن الوحيد الذي ينصت إلى همسات الفتاة، لذلك عندما تجده مقتولا بصورة بربرية ووحشية تقرّر مواجهة الشر بالشر والعنف بالعنف.
تتسلل خفية لتسرق بندقية الصيد من منزل رفيق أمّها، يزداد التوتر الذي ينشطه “المونتاج” ويجعلنا نتسابق لتخيّل ما سيحدث، قد يتخيّل البعض أن جنيفير سترتكب مذبحة مفجعة خلال حفل تخرج زملائها، وينتهي الحفل ليقام حفل آخر في بيت المتهم، وهنا يعترف الصبيّ لأمّه بجريمته، لكنها تواسيه وتدعوه ليذهب ويمرح مع رفاقه.
لا تصل جنيفير التي تحمل سلاح الانتقام، ويخيب توقعنا في حدوث المذبحة للمرة الثانية، نرى الجاني مع رفاقه ورفيقاته يلهون عند البحيرة، ثم يخلعون ملابسهم ويقفزون للسباحة، وهنا لا يكون لدينا أيّ شك بوقوع مجزرة مرعبة أو على الأقل اقتناص الجاني، لكون كل المعطيات التي تقدمّها المخرجة بياتا جاردلير تشير إلى هذا التوقع، لكن المخرجة تقدّم دليل الإدانة الثاني، وهنا ليس الاعتراف الشفوي، بل دليل ماديّ يتمثل في اغتصاب فتاة أخرى، ثم تكون النهاية.
هذه المواضيع الشائكة، أي الاغتصاب والانتقام والنفاق الاجتماعي، التي ناقشها الفيلم بطريقة سينمائية ذكية لم يكن الهدف منها مجرّد استدرار عواطفنا، إن هذه الصرخة تأتي من السويد، حيث وصلت المرأة إلى مرحلة متقدّمة ولها صوتها القوي، وتسيطر على الكثير من مفاصل صناعة القرار ولها موقعها المدني المميّز والمسموع، ومع كل هذا تدعو المخرجة إلى عدم غرور المرأة السويدية بمنجزاتها، وبضرورة تنشيط نقاشات أعمق حول قضايا الاغتصاب، فضحية الاغتصاب سويدية أو غير سويدية، هي في المقام الأول إنسانة يتمّ تدمير روحها، فهذا الفعل الشنيع ليس جريمة تمسّ الجسد فقط، بل تمسّ حرمة الروح.
الحريّة الجنسية لا تعني الفوضى وأن يستغلها الرجل لمصلحته، فالضحية في الفيلم سبق وأن مارست الجنس برغبتها مع الجاني، ولكن في هذه المرة اغتصبها، هذا يقودنا إلى ضرورة فهم هذا الفعل والذي يمكن حدوثه بين صديق وصديقته وبين زوج وزوجته، الدعوة واضحة لضرورة التفاهم، أي أن يفهم المجتمع جميع أفراده وينصت للمظلوم ويطوّر أساليب العدالة ونظمها فيه.
نواميس المجتمع
عن نهاية الفيلم توضح المخرجة بياتا جاردلير، بقولها “لقد وجدت دائما، أن الأكثر إثارة للاهتمام، هو غلق فيلمي بسؤال بدلا من الإجابة، وفي هذه الحالة، يمكن أن يكون السؤال: هل أن المجتمع هو الذي يدفعنا إلى لعب الأدوار التي لا نريد أن نؤديها؟”.
كما أوضحت أن كل أفلامها تؤكد أن تطوّر وتقدّم وسائل الاتصالات تؤدّي بنا إلى الإقصاء والشعور بالوحدة، وأن الذكاء الاصطناعي لم يجتث منا الغرائز الحيوانية، ووسائل الاتصال قديمة منذ الرسومات التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري حتى اليوم متمثلة في الإنترنت كما شاهدنا في الفيلم، هي وسائل فعالة تظهر آلية الخوف، فنحن على شبكة الإنترنت يمكننا أن نقول أشياء نعجز عن التصريح بها في واقع الحياة، كلنا بشر نتعرض في حياتنا للخوف ولتجارب مرعبة، وقد نتعرض للرفض من قبل مجموعة في مجتمعنا.
وتعتقد المخرجة كذلك بقداسة الأمّ، فهنا سوزان، والدة ألكسندر، شخصية رائعة، وقد حاولت مساعدة جنيفير وألكسندر، لكن في نهاية المطاف تقع هذه الشخصية الجميلة في سجن الخوف، ونصل إلى أن كل طبقة اجتماعية تتأثر بمحيطها.
ركّزت بياتا جاردلير في فيلمها على إيضاح بعض العناصر المحدّدة لخلق الجوّ السويدي، حيث تظهر الكثير من المشاهد الخارجية في الهواء الطلق، كما أن مشاهد إطلاق النار في الليل خلقت تأثيرات نفسية مميزة، فكما هو معروف إن للصيف حالة خاصة في أقصى شمال السويد، لذلك يضع الناس الستائر أمام كل النوافذ للحفاظ على ضوء اصطناعي في الداخل، وهذا العنصر في المشاهد الداخلية بالفيلم يؤكد ويعمق مظهر الحصار الذي يهيمن على الشخصيات ويربكها.
(العرب)