قصة أم غائبة في الطفولة… حاضرة في الحياة

سليم البيك

نشاهد في الفيلم حياتين: ماسيمو الطفل وماسيمو الرجل. ولا يمرّ الفيلم بالحياتين زمانياً، بل يوازي بينهما متنقلاً، على طوله، بين أواخر الستينيات وأواخر التسعينيات، ماراً، قليلاً في الأزمنة ما بينهما.
هنالك ثنائيات عديدة في الفيلم، كأنه يقوم عليها، فإضافة إلى ماسيمو في حياتيه، هنالك ثنائية الامرأة: لدى ماسيمو الطفل أمّه، وهذه ينقسم حضورها إلى ما قبل وفاتها وما بعده، ولدى ماسيمو الرجل حبيبته. الامرأتان، الأم والحبيبة، تقفزان من علو، الأولى سنعرف لاحقاً لمَ فعلت ذلك، والثانية ستكون في مسبح، في بداية العلاقة بين ماسيمو والامرأة الآتية حديثاً إلى حياته، لتغيرها.
حتى لحظات الفرح، لا نراها إلا مرّتين: الأولى في اللقطة الافتتاحية، حيث يرقص الطفل مع أمّه، في البيت، ثم، رجلاً، نراه يرقص الرقصات ذاتها لكن معدّلة بجنون أكثر، مع حبيبته التي كانت، بحنوّها، بديلاً معنوياً عن غياب أمّه طوال تلك السنين.
الفقد والحضور، ثنائية أخرى ومكثّفة: فقدان والدته المقترن، حتى تجاوزه سن الأربعين، بحضورها الدائم في ذكرياته ويومياته، حتى نجاحه المهني كصحافي كان مقترناً بأمّه، بفقدانها جسدياً كما في حضورها كذكرى تأبى أن تتركه.
«أحلام سعيدة» هو الفيلم الجديد للمخرج الإيطالي ماركو بيلّوكيو والمشارك في تظاهرة «أسبوعي المخرجين» في مهرجان «كان» الأخير. وهو فيلم إيطالي آخر جديد وممتاز، وآخر يتناول موضوع الأم، بعد فيلم ممتاز آخر لمخرج إيطالي آخر هو ناني موريتي اسمه «أمي» في 2015.
ماسيمو (فاليريو ماستاندرا)، يمضي الوقت مع أمه، يرقصان ويلعبان ويغنيان ويشاهدان التلفزيون معاً. تمضي الأم جل وقتها مع ابنها، كأنّها تعرف بموتها القريب. يفرد الفيلم وقتاً معتبراً في إيصال هذه العلاقة المتينة بين الطفل وأمه.
فجأة تموت، لا نعرف شيئاً عن ذلك، لا يتقبل الطفل الأمر، يتم إخباره أولاً أنها في المستشفى، ثم أنها في الجنة وقد استدعاها الله، يصرخ مراراً أنه لا يصدق ذلك. يعيش حالة إنكار تمتد إلى مراهقته، حيث يخبر صديقه بأنّ أمه في نيويورك، رافضاً أن يقبل بموتها، وإن كان يعلم، بعدما لم يعد طفلاً، أنّها ميتة، لكنّه، منذ لحظة رفع التابوت وهي فيه، كان يرفض أن يصدّق ذلك، ما لم يتم فتح التابوت ليراها. ماسيمو الرجل، ينوي ليخرج من كل ذلك بيع البيت بما فيه، لكنّه وقد أتى إلى البيت ليتفحصه قبل بيعه، عادت إليه الذكريات التي جمعته بأمه، فيتردد، ولا يعرف ما يفعل. يحاول أن يتقدّم في عمله الصحافي، وفعلاً يصبح صحافياً معروفاً، حين يردّ على رسالة أتت إلى الجريدة يحكي فيها عن علاقته بأمّه وينصح المرسل/القارئ بالحفاظ على علاقته الجيدة بأمّه، لأن آخرين غيره لن يستطيعوا حضن أمّهاتهم في هذه اللحظة. أثناء عمله الصحافي يذهب إلى كوسوفو، هناك تمر عليه مآس إنسانية بعيدة تماماً عن المجتمع الإيطالي، وبالتالي عن حياته هو، إذ يرى أماً مسلمة مقتولة ومرمية على الأرض، وابنها يلعب إلى جوارها، دون أن نعرف إن كان مدركاً لما حصل لأمّه أم لا. لا يترك المشهد أثراً مباشراً لدى ماسيمو الذي يعود إلى بيته الآمن، لكنه بعودته يبدأ انعطافة جديدة بشعوره بالاختناق واتصاله بالطبيبة ليصيرا لاحقاً حبيبين.
يتعرّف ماسيمو إلى إليسا (بينيريس بيجو) التي تحكي معه كطبيبة لتعالجه من أزمة في التنفس أتته حين تذكّر أمّه، التي ستصير حبيبته التي ستخرجه، كحبيبة وليس كطبيبة، مما هو أكبر من أزمة تنفس، فهي أزمة نفسية كبرت معه لفقدانه أمّه، وسنرى لاحقاً أن الأزمة تحوّلت معه، على كبر، إضافة إلى الفقدان إلى كيفيّة هذا الفقدان فلم يعرف إلا أخيراً كيف ماتت أمه ولمَ.
سيُضاف الفيلم إلى «أمّهات» الأفلام التي تتناول علاقة الأم بطفلها: من «امرأتان» في 1960 للإيطالي فيكتوريو دو سيكا، حتى «مومي» في 2014 للكندي إكزافييه دولان، مروراً بـ «ماما روما» في 1962 للإيطالي بيير باولو بازوليني و «أليس لم تعد تعيش هنا» في 1974 للأمريكي مارتين سكورسيزي و «كل شيء عن أمي» في 1999 للإسباني بيدرو ألمودوفار، والعديد غيرها.
في الفيلم موسيقى بديعة، أداء لافت، حوارات قصيرة لا حشو فيها، واستخدام جمالي للظلال والإضاءة، والتصوير فيها أتى بأسلوبين: الزمن الحالي لماسيمو الرجل بألوان مكتملة، والتصوير الستّيني والسبعيني بألوان باهتة، لتناسب أكثر الحكاية وقتها وكذلك الديكورات والأزياء. أما الحكاية فأتى السرد فيها متوازياً بين زمنين، عالمين موضّحاً أحياناً أحدهما ما يحصل في الآخر، ومبرِّراً له. دون قفزات أو مبالغات عاطفية غير مقنعة، داخلاً، المخرج وقبله بالتأكيد الكاتب، إلى العالم الداخلي للطفل، إلى ردود فعله، إلى كيفية تلقيه الصدمة، إلى السلوك والكلام الصادرين عنه، دون إقحامات يغلط الكثيرون في الدخول إليها. الفيلم عاطفي لكنّه حساس، حكايته متينة لكنها رقيقة، وهذا يعود لأمور منها «خبرة» مخرجه بيلّوكيو المعروف بأفلام منها «فينسير» في 2009، و «الجميلة النائمة» في 2012، و«صباح الخير، الليلة» في 2003، و «دمُ دمي» في 2015.
الفيلم المأخوذ عن رواية إيطالية بالعنوان ذاته وهي سيرة ذاتية للكاتب، ماسيمو غراميليني، المعروض حالياً في الصالات الفرنسية شارك، إضافة إلى مهرجان «كان»، في مهرجان «تورنتو» السينمائي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى