خيرات الزين تروي سيرة الحروف

سليمان زين الدين
منذُ القدمِ، يُشكّل الحرف العربي مادّةً أوّليّةً لمجموعة من الفنون، منها الخط، والرسم، والحروفيّة، والزخرفة. ولعلّه الحرف الوحيد الذي يُمكن تحويله الى لوحات فنّيّة وأشكال زخرفية، في تناغم بين الديني والفنّي، ما أكسبه نوعاً من القداسة عبر التاريخ. ولعلّ المرونة التي يُكتَب بها هذا الحرف هي ما يجعله مادّة قابلة للتطويع الفنّي، ويجعله يكتنز بإمكانات فنّيّة كبيرة قابلة للتحقّق.
أدركت الفنّانة التشكيلية اللبنانية خيرات الزين هذه الإمكانات، فاستثمرتها في عمل فنّي جميل هو «منام الماء- سيرة ذاتيّة للحروف» (دار عالم الفكر)، وفيه تزاوج بين الرسم والخط واللون والكلمة، لتنخرط هذه المكوّنات في علاقة تناغمية – تكاملية، تنفتح على مساحات من المتعة والفن والجمال.
تُفرد الزين لكلّ حرف من الحروف الثمانية والعشرين لوحة تشكيلية، فيمثّل الحرف الأوّل خلفية للثاني، وجدولاً تمثيليّاً، ونصّاً أدبيّاً يلامس الشعر، ويتراوح طوله بين صفحتين اثنتين وأربع صفحات، أي أنّ الكتاب يتألّف من ثمانٍ وعشرين لوحة، وثمانية وعشرين جدولاً، وثمانية وعشرين نصّاً.
في الرسم، تتشكّل اللوحة من مساحة أحادية اللون، مرصّعة بنقاط من لون آخر، فتبدو كسماء منجّمة، تشكّل خلفية للحرف الهلال الذي تلوّنه بلون آخر مفارق للون الخلفية، وإذا اللوحات سماوات تحتضن الحروف الأهلّة. وإذا كانت الخلفيات تميل الى الألوان القاتمة، ويطغى عليها البنّي ومشتقّاته، فانّ الحروف تميل الى الألوان الفاتحة ما يقيم تضادّاً متناغماً بين الخلفية والحرف، فكأنّنا إزاء فضاء قاتم تضيئه أهلّة برّاقة. وهكذا، تصبح سيرة الحروف أشبه بسيرة الضوء في ليل المعنى.
بالانتقال من الخلفية الى الحرف، تتّخذ الزين من الهلال وحدةً فنية صغرى لرسم الحروف، ويختلف عدد الأهلّة المستخدَمة من حرف الى آخر، ويتراوح بين هلال واحد في ستّة أحرف هي: الباء والزاي والنون والراء والتاء والثاء، وهلالين اثنين في ثلاثة عشر حرفاً هي: الجيم والدال والواو والحاء والياء واللام والميم والعين والفاء والقاف والخاء والذال والغين، وثلاثة أهلّة في ثمانية أحرف هي: الألف والهاء والطاء والسين والصاد والشين والضاد والظاء، وأربعة أهلّة في حرف واحد هو الكاف.
وتأخذ الأهلّة المتعدّدة للحرف الواحد وضعيّة الاتصال في صلب الحرف، ووضعيّة الانفصال في مكمّلاته كهمزة الألف والكاف، على أنّ ترتيب الحروف داخل الكتاب يخضع للترتيب الأبجدي وليس الهجائي. أمّا الحروف المنقوطة فتبدو فيها النقاط على شكل دوائر صغيرة أو بدور، تحت الحرف الهلال أو فوقه، حتى ليبدو الحرف المنقوط هو هذه العلاقة الجدلية بين أطوار القمر المختلفة بين حالتي الهلال والبدر.
في الجداول، تضع الزين لكلِّ حرفٍ جدولاً مؤلّفاً من عشر جمل اسميّة، المبتدأ فيها ثابت، ويتناول الاسم، واللون، والصوت، والزهرة، والحجر، والشكل، والصفة، والنجم، والرقم. والخبر متغيّر من حرف الى آخر ويقدّم معرفة تمثيلية بالحرف، من خلال ضرب الأمثلة عن مفردات أو تراكيب يرد فيها. ويشكّل كلُّ منها خبراً للمبتدأ الذي تُخبر عنه. ففي «ألف الهمزة» نقرأ، على سبيل المثل: «الاسم أسماء، اللون أرجواني، الصوت أنّة، الزهرة أقحوان، الحجر ألماس، الشكل همزة مرفوعة على الألف، الصفة أبيّة، النجم آخر النهر، الطير أبو الحن، الرقم واحد»(ص17). والأمر نفسه يتكرّر في جميع الحروف مع ثبات المبتدأ وتغيّر الخبر. على أنّه في العلاقة بين الرسم والجدول كثيراً ما نقع على تضارب بين لون الحرف في اللوحة والكلمة التي يُخبر بها عن لون الحرف في الجدول وتشتمل على الحرف صاحب العلاقة. لون الدال في اللوحة أخضر وفي الجدول دخاني، ولون الطاء في اللوحة بنفسجي وفي الجدول طحيني، ولون اللام في اللوحة أحمر وفي الجدول لازوردي…، ومع هذا، ثمّة أحرف يتطابق فيها اللون بين اللوحة والجدول كالباء والشين، مثلاً.
في النص، تُفرد الزين لكلّ حرف نصّاً خاصّاً به، وهي نصوص تطرح سؤال التصنيف والإطار، كما يشير الشاعر طارق آل ناصر الدين في تقديم الكتاب، بحيث نقع، في النص، على السرد والوصف والحوار والصورة الشعرية والسيرة المتخيّلة والرمز والأسطورة، أي أنّنا ازاء نص متنوّع الأنماط. هذا التنوّع، في الشكل، يقابله تنوّع آخر في المضمون، فتقوم الكاتبة بالتعريف بالحروف انطلاقاً من مرجعيّات لغويّة، ودينية، ونحوية، وصرفية، وشكلية، ومناخية، وتاريخية، وفنية، واجتماعية، وجمالية… على أنّها لا تستخدم هذه المرجعيات مجتمعة في الحرف الواحد لضيق المقام.
هذا التنوّع في المرجعيّات التي تنطلق منها، وتُحيل عليها، جعل بعض النصوص مجموعة من الفقرات غير المتماسكة معنويّاً ولا يربط بينها سوى تمحورها حول معيار شكلي هو الحرف. لكنّ هذا «التفكّك» الظاهري لا يحجب جماليّة النص، وجدّة الأفكار، ورهافة الصور التي ينطوي عليها. وكثيراً ما تختم نصّها بحوار ثنائي غالباً وثلاثي أحياناً.
وهي في كتابتها سيرة الحروف، تفعل ذلك بصيغة الغائب ولا تستخدم صيغة المتكلّم الا في «واو الوحي»، وكان ممكناً استخدام هذه الصيغة مع الحروف كلها باعتبار «المتكلّم» أكثر ملاءمة للسيرة الذاتية، والا كان الأفضل حذف كلمة «الذاتية» من العنوان الفرعي للكتاب.
وانتقالاً من التعميم الى التمثيل، فانّ الزين تُعرّف بالحرف انطلاقاً من المفردات التي تحتوي عليه، «فالألف أيقونة الحروف وأسطورة الأبجدية وآسُ الشجر» (ص18)، وتفعل ذلك أيضاً من خلال موقع الحرف في الكلمة، فالدال «في أوّل الدفاع وفي وسط الهدف وفي آخر الجهاد» (ص30)، والهاء «بداية الهوى وآخر الكره» (ص34)، وتستخدم المعجم الديني حين تقول: «الدال هي أوّل الدنيا والدين» (ص30)، و «حرف الجيم أوّل الجنّة وأوّل الجحيم» (ص26). وقد تستخدم المعجم النحوي في التعريف كقولها: «يدخل حرف الهاء على الأسماء فيصبح ضميرها… ويدخل على الأفعال فيربطها ويعطيها مدلولها…» (ص34). وأحياناً تتّخذ من التعريف بالحرف منصّة لذكر معلومة تاريخية كقولها: «ففي عام الهجرة انتصر بنو هاشم على هبل…» (34)، أو لإبداء رأي فنّي: «واجب الفنان أن يهب اللوحة كفاف يومها من اللون» (ص39)، أو نقدي: «والقصيدة لا تربو وتنمو وتعلو من غير وزن» (ص39)، وقد تبدي رأياً سياسيّاً كقولها: «تكفي للزاهد حبّة زبيب، ولا يكفي زعماءنا وطنٌ بزرعه» (ص42). وكثيراً ما تنطوي النصوص على عبارات جميلة مبتكرة كقولها: «الزمن زئبق العمر» (ص43)…
«منام الماء» لخيرات الزين كتاب جميل، جديد في موضوعه ومعناه ومبناه، وهو معرض تشكيلي متجوّل مفتوح على المتعة والفائدة، ويكتنز بزين الخيرات التي تجعل الماء ينام قرير العين ويحلم بأحلام جميلة.
(الحياة)