‘أورشليم’ رواية الخيانة والغدر والجنون.. والحب أيضا

هيثم حسين

يوحي الروائي البرتغالي جونسالو إم. تافاريس في روايته “أورشليم” بأن الدماء تكون شرارة الإيذان بفتح الأبواب المغلقة، وكأنه لا يمكن الدخول إلا بعد اقتراف ذنب، والاعتراف به، ومن ثم طلب العفو والمغفرة عليه، وكيف أن العنف يشوّه المرء من داخله، وإن كان بطريقة غير مباشرة، أو لم يكن فعلاً مقصوداً ومخططاً له، ووضعه نهاية حياة مأساوية وفتحه الأبواب على حياة يسودها التخبط والضياع وتأنيب الضمير والجنون.

يقارب تافاريس في روايته “أورشليم” (منشورات مصر العربية للنشر والتوزيع بترجمة أحمد صلاح الدين ومحمد عامر 2016) مفاهيم الخير والشر، التطهر والتشوه، الغدر والحب والخيانة، الثأر والجنون، التاريخ والمستقبل، العنف والوحشية والتطرف وغير ذلك من القضايا الإنسانية التي ترسم صورة حياة المرء في عالمه المحيط به.

يستهل تافاريس روايته بمشهد إرنست سبنجلر القابع وحيداً في غرفته وهو يستعد لإلقاء نفسه من النافذة المفتوحة، وكيف ينتشله رنين الهاتف من وساوسه الجنونية، يأتيه صوت ميليا التي تتألم وتستغيث به، ميليا التي كانت قد خضعت لعدة عمليات جراحية أثناء بقائها في المصحة العقلية وبعد خروجها منها.

يستحضر الراوي جملة من التوراة تقول “إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني”، وقياساً عليها تقول بطلة الرواية ميليا مخاطبة الطبيب جورج مدير المصحة العقلية الذي أمر باستئصال رحمها وساهم في مضاعفة عذاباتها أثناء مكوثها في مصحته، “إن نسيتك يا جورج روزنبرج تنسى يميني”. يكون الارتباط بالذاكرة والتذكر والبحث عن الانتقام وإرواء الغليل ولو من خلال الإيداء بأشخاص أبرياء في طريق الوصول للهدف الذي يغيب في ضباب الزمن.

تخرج ميليا بحثاً عن كنيسة، بحثاً عن سكينة وسلام وهدوء، تختبر الحياة عبر الألم، هناك ألم الروح وألم النفس وألم الجسد، تعيش صراعات ضارية في واقعها وفي أعماقها. تؤكد على أن المرض يغير الإنسان، وأن مرضها المديد غيّرها كثيراً، جعلها ترى واقعها ونفسها بعيون مختلفة، جعلها تدرك أموراً كانت غائبة عنها، أو لم تكن لتوليها أي اعتبار أو اهتمام.

تقع فريسة الأذى الذي يطالها من كل التفاصيل التي تغرقها في واقعها، ومن معظم المحيطين بها، تصل إلى مرحلة تناجي بها الأشياء والموجودات، ترتحل في أفكارها التي تنسيها آلامها وتبقيها متأهّبة للقاء من تحب بعيداً عن اليأس، تراها تصل لمرحلة تخاطب فيها حذاءها، تقول لنفسها إنه يجب على الأحذية أن تلزم الطاعة دون أسئلة، وتشير إلى أنه يمكن تقسيم كلّ الأشياء إلى صنفين، أشياء تتحرّك بإرادتها وأخرى تسمع وتطيع، وكذلك البشر، وترى الحذاء مثالاً حيّاً للطاعة المطلقة وتراه مثيراً للاشمئزاز، وترى خضوع العالم المادي للبشر أمراً مقززاً.

يذكر الراوي أن الخطر يطرح الأسئلة ويستجدي إجابات فورية، ينقل ما يعترك في تفكير بطلته ميليا وحاجتها لسؤال يدفعها نحو الوصول لجواب شاف ومُرْضٍ. دفعها الألم الجديد للتأمل، ثمة خوف لا يمكن تفسيره. الألم الذي جاء بفعل الجوع صار أقوى فعلياً من الألم الآخر. ألم مرضها المزمن، أصل مخاوفها، الكبيرة والصغيرة. تتساءل ميليا في نفسها كيف لألم نتج عن الحاجة للأكل أن يكون أكثر إيلاماً من ألمها المعتاد. تشعر بألم الجوع وألم المرض، تؤكد لنفسها أن الألم دليل الحياة، وأنها حين تشعر بالجوع فإن جسدها يقاوم ويصمد ويرنو للحياة ويسعى لئلا يرضخ لنداء الموت.

الطبيب ثيودور باسبيك الذي يتطلع بداية لمعالجة ميليا من دائها العضال، يستمع إليها وهي تحكي عن مرضها، وتصف نفسها بأنها مريضة بالفصام، ويصعب علاجها، يتعاطف معها بشدة، ينجذب إليها، يقع في حبها، يتورط في علاقة غريبة مع مريضته التي تصبح زوجته لاحقاً، ويقرر خوض غمار المشقات من أجل البقاء معها ومحاولة علاجها.

يصل باسبيك إلى طريق مسدودة معها، يضطرّ لوضعها في مصحة عقلية، وهناك تقع حادثة لم تخطر له على بال، تحبل ميليا من إرنست، وذلك بعد مواقعة على مرأى من نزلاء المصحة وعمالها، ثم يكون ثيودور أمام محنة تالية وهي تحمل عبء الطفل القادم من تلك العلاقة بين مجنونين، حيث يأتي الطفل معوقاً، وكأنه صورة الواقع المشوهة نفسها، الصورة التي لا يراد رؤيتها ولا انتشارها وتصديرها.

يدلي الطبيب باسبيك بآراء عن الوحشية التي تغلف سلوكيات كثير من البشر، عن العنف الذي يسود ويدمر في كثير من الحقب والمراحل حتى لكأنّه يغدو عتبة من عتبات الدخول في مراحل زمنية مختلفة، أو تخطي مكان إلى آخر، وكيف أن الحروب تتفشى كالأوبئة بين البشر في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولعنة الحياة وسط فوضى الموجودات وفي غمرة الجنون الذي يتحوّل إلى سمة لكثير من العصور والحقب في تاريخ الإنسان.

يجسد باسبيك في جانب من شخصيته وممارساته مثال الشخصية المنشطرة، يعيش ازدواجية بين ما يكتب وما يقول ويفعل، يدافع عن مرضاه، يكتب فرضياته وآراءه التي يسبغ عليها لمسات إيمانية وروحانية لا تكون مقبولة كثيراً في الوسط العلمي والأكاديمي، ويكون أمام امتحان الصبر والشقاء في الوقت نفسه حين تورطه مع ميليا، المريضة الزوجة، المجنونة العاشقة لرجل آخر، الهاربة من ظلالها وخيالاتها وكوابيسها إلى عتمتها.

يؤكد باسبيك لنفسه أن على القرن القادم أن يكون أكثر جدية، وإلا سيخسر البشر كل ما وصلوا إليه، إذا واصلوا إضاعة طاقاتهم الإبداعية على ماضٍ لا قيمة له، على عاهرات وشائعات، ويعتقد أنه ستأتي حيوانات أخرى، حذرة وجادة، وتسود. يتصور كذلك أن الاحتياج البسيط للتسلية يمكنه تدمير المدينة. يمضي في بحثه عن أسرار العلاقة بين التاريخ والعنف والوحشية وكيفية رسم مسارات التاريخ وسبر أغواره وتشكل طبقاته.
يلفت إلى أن ميليا اكتسبت مهارة إذلال الرجال في الثامنة عشرة من عمرها، فهمت الخط الفاصل بين الإغواء والإبعاد، وعرفت كيف تتلاعب بهذه المساحة؛ قبضها ومدها، ثم ادعاء عدم وجودها أصلا، لتستعرض قوتها، تستطيع إذلال من تسمح لهم بالتقرب منها، ويكون الطبيب الذي يستجوبها مختلفاً عمّن تعرّفت إليهم، ويقع كلاهما في شراك الآخر وينأسر له.

ميليا التي لم يفتحوا لها باب الكنيسة لتدخل في ساعة من ساعات الفجر، تمكنت من ولوج عتبة الباب في نهاية الرواية، وذلك بعد أن أقرّت بذنب لم تقترفه، واعترفت بأنها قتلت أحدهم، في حين أنها لم تكن القاتلة، وكان الأمر كله حدثا كعبث أطفال في تلك الساعة الباكرة من الفجر، إذ كان المزاح الذي ساد بينها وبين إرنست وهينرك قاتلاً، فهينرك الذي كان يشهر مسدسه كلعبة بين الحين والآخر وضع ذاك المسدس بين يديها ويدي إرنست الجاهل بالسلاح، وخرجت رصاصة طائشة لتقضي عليه وترديه قتيلاً.

كاس؛ الابن غير الشرعي يقضي أيضاً في عملية قتل من قبل مجهول، وكأن الدماء تستجرّ بعضها، فهو يقتل في الليلة التي يلتقي فيها والداه الحقيقيان بعد سنوات من البعد والانقطاع الإجباريّ، ثمّ تكون ذروة الأحداث في تقاطع الظروف والمصادفات لتضع نقطة النهاية لأحداث مأساوية متشعبة.

ميليا المحبوسة داخل عنبر فردي في مستشفى الأمراض العقلية المخصص لاحتجاز المرضى العقليين ذوي السوابق الإجرامية، تعيش محنتها على طريقتها، فهي التي حولت نفسها إلى قاتلة ومجرمة، تحملت وزر خطأ آخر هرب من مواجهة ذاته وخطئه وذنبه، وتشعر بتغييبها عن الواقع، أو اختيارها بصيغة ما واقعها الإجرامي الذي تم حبسها فيه.

يكون جسدها ميدان تصارع ألمين يتناهبانها، الألم الشرير كما تسميه وهو ألم المرض، والألم الحميد، ذاك الذي نبع من الحاجة للأكل، ألم يمثّل الحياة، ألم الوجود كما تسميه. جعلها الجوع تشعر بأمان غريب، حيث كان ألم الجوع بمثابة ضمان لها، ووعد على الأقل في ذاك الوقت، تؤكد لنفسها أن آلامها الأخرى لن تغزوها وتقتلها طالما كان ألم الجوع يداهمها بهذه القوة، ومع شعورها بالأمان حاولت أن تبقي عقلها مطالباً بتناول الطعام، وتظن أنه بمجرد زوال هذه الرغبة سيزول معها الألم، ومن ثم سيعود الألم الآخر من جديد، وربما يقتلها.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى