‘حيوانات ليلية’ رؤية سينمائية بشذى العطور المخملية

نصيرة تختوخ
رشّةُ عطر هُرِسَتْ فيها الأمكنة وضُغطت مع الطّقس غير المحايد، فيه الألوان، وعناصر من الطبيعة تحوّلت إلى نوتات شفّافة تعبر عبر الشَّمِ إلى السلطة على اللحظة والمزاج، هؤلاء قد يتذكرون وهم يقرأون هذا أسماء على قوارير مرّت بين أيديهم، ومن طريق البساتين أو الغابة، عبر بَرَكَةِ البحر المتوسط على الكائنات. نمر إلى فيلم “حيوانات ليلية” لمخرجه توم فورد، المصمم الذي لم يكتف بحقل الموضة والعطور، ونشدان التّميز في السينما بنفس تركيز وأريحية تركيبة ماندارينو دي أمالفي ومُطلق الباتشولي.
تُطلّ إيمي آدمز بشعرها الأحمر وكلماتها المضبوطة كسوزان مورو المتزوجة من رجل مشغول عنها، قلقة، تستعين بالحبوب كي تنام، تبدو مُحتاجة لما هو أعمق من النجاح في العمل والرّضا عن مظهر الحياة الخارجي.
زوجها السابق إدوارد كان يسميها الحيوان الليلي، لأنها لا تنام، يأتيها مخطوط هذا الأخير، وكانت قد انفصلت عنه منذ عشرين سنة، ويضيف إلى حالتها زوابع جديدة في العاطفة والذاكرة.
جاك غيلنهال الذي رأيناه ملاكما في “الأعسر” (2015)، يتقمص في “حيوانات ليلية” دور بطل الرواية توني هاستينغس والزوج الأوّل إدوارد شيفيلد الذي تخلّت عنه سوزان لطبعه الذي وصفته والدتها قبلها بالضعف.
المخرج توم فورد يجمع في فيلمه “حيوانات ليلية” بثبات وتميز بين عالمي تصميم الأزياء والعطور والفن السابع
إدوارد كان مُحِبا، حسَّاسا لم ينطلق شرسا، طموحا نحو النّجاح وتحقيق ذاته في العمل وفي الرّواية التي كتبها وأهداها لزوجته السابقة، ظهر كبطل لم يقدر على حماية زوجته وابنته من صعاليك اعترضوا طريقهم ليلا وأدخلوهم في كابوس دَامٍ ومُرْعب.
من أداء المجرمين المعتدين على البطل وأسرته نشيد بالحضور القويّ لآرون تايلور (جسد شخصية جونسون) الذي قابلت عدوانيته نعومة طبع توني هاستينغس في تباين جذّاب منح الدّورين تألّقا أكبر، دعمه السيناريو الذي كتبه توم فورد بنفسه، بينما استلهم قصة الفيلم من رواية أوستين رايت “توني وسوزان”.
بين المجرم والضحية جاء دور رجل الشرطة الذي لا تنقصه الحدّة، وكأنّه أخذ من سلوك المنحرفين القسوة ومن الضحايا دافع العقاب والانتقام، مايكل شانون أتقن حضوره كبوبي أنديس المحقّق ذي النظرة الثاقبة والمسدّس الحاسم.
الممثلون الذين ظهروا في العمل إجمالا بدوا وكأنهم عازمون على ترك أثرهم، مهما صغرت أدوارهم، ولوعي المخرج كمصمم عالمي مبدعٍ بأثر الزّي والشكل والضوء والألوان فضل في ذلك، ربما إلى جانب مواهب طاقم التمثيل الفردية.
الانتقال بين أجواء الطريق الصحراوي الخطر الذي تعرض فيه توني وأسرته للاعتداء وملامح الحياة اليومية لسوزان بقلقها وحطامها الداخلي بين الرواق الفني وبيتها، كان فيه لا شك تحدّ للعاملين على “حيوانات ليلية”، فالحفاظ على الوضوح والتشويق وعدم الوقوع في تناول مستهلك ومسبوق يلغي واقعا على حساب آخر، أمر ليس سهلا بالتأكيد، خاصة أن الممثل الرئيسي إدوارد/ توني يقوم ببطولتين، فيما يقارب الساعتين من عمر الفيلم، فإن المُشاهد غير مهدّد بالوقوع فريسة للملل أو التكهن بمآلات الأحداث.
النهاية بديكورها وبانتظار سوزان التي ارتخت صرامة نظرتها قليلا وهي تتأهب للخروج، في المطعم تنسجم بجمال وذكاء مع اختيار الزوج السابق إدوارد لمصير بطل روايته، فقد أتت تمنح المشاهد فرصة التفكير والتأويل، وإن كانت لا تكشف مواجهة حاسمة بين البطلين، فإنّها تنبئ بما له علاقة بقرار إدوارد وتصرّفه.
خارج إطار الأحداث جاءت النهاية كشاهد آخر على ذكاء المخرج توم فورد، يمكن أن نقول عنه بارتياح إنّه يوحي بالثّقة، وإنّ جسر المصمم بين عالم الأزياء والعطور والسينما مغر ومطمئن كالجسر المقوّس القصير الأخضر في حدائق كلود مونيه بجيفيرني.
(العرب)