الشعر جواب على سؤال الحياة

هاشم شفيق

دائماً يثار حول الشِّعر لغط ما، يظهر بين حين وآخر، فيأخذ لدى محبّيه وتبّاعه وكتّابه ونقاده، فترة زمنية من الجدل والنقاش والتنظير والكتابة، قد تستمر وتأخذ عقوداً من الوقت، كتلك التي ظهرت في مطلع السبعينيّات، مثل أزمة الشعر العربي. وفي فترة الستينيّات برزت مشكلة قصيدة النثر، وأثرها على الأصالة والتراث والقدامة في الشعر العربي، على نحو عام، ثم ظهور ظاهرة الغموض في الشعر العربي، ومن ثم تمظهرت كرد عليها ظاهرة شعراء المقاومة، وبُعَيد ذلك بعقد أو يزيد، ظهر شعر الخطابة والسهولة، والصياغات التي برعتْ في تقريب الشعر من العامة كرد على غموض الشعر وإبهامه، لنشهد بعد كل تلك الإرهاصات والطروحات والأفكار، ومنذ أكثر من عقد ويزيد، ظاهرة الرواية التي نادى بها بعض النقاد الذين لم يستطيعوا مجاراة فن النقد وتتبع الأساليب الشعرية المتطوّرة في سياق الحداثة الشعرية، حتى انبروا يردّدون أنه «زمن الرواية» التي أصبحت، حسب زعمهم، «ديوان العرب» .
التسمية في أساسها خطل بخطل. كيف تكون الرواية ديواناً شعرياً للعرب، حتى لو كان هذا التعبير من باب المجاز والصيغ الاستعارية؟ كيف يكون كتاب نثري، فيه مرويّات وأحداث وشخصيات، وينطوي على أزمنة وأمكنة ديواناً للعرب؟ وهل بمستطاع العرب حين يختلون من أجل الفن، حفظ سطور ومقاطع ومساحات نثرية مكتوبة على نحو سردي من رواية ما، حتى تكون ديوانهم؟ إنها تسمية خاطئة، في الزمان الخطأ والمكان الخطأ، فالزمن العربي هو شعري بامتياز، والمكان كذلك، نحن أمة شعرية، نحن مجبولون على الشعر وعلى قول الشعر، حتى في جلساتنا وقعداتنا، وفي مشوارنا الطويل مع الحياة .
إذاً الرواية هي ليست ديوان العرب، هي فن أوروبي، نحن كانت لدينا حكايات، وجلها مطعمة بالشعر وفنه وأسلوبه وطرائقه الجمالية. ولعل من أطلق هذه الصفة «الرواية ديوان العرب» هو روائي سوري، كرّر نفسه في كتابة الرواية، بشكل مجحف بحق نفسه، حتى طفق مفاجئاً إيّانا بهذا الاختراع العجيب، بأن الرواية هي» ديوان العرب».
لم يزل الشعراء ترافقهم الجاذبية، أنّى حلوا وكانوا، وأعتذر من الروائيين العرب الذين يفتقرون إلى الوهج، والى السحر الغامض الذي ينطوي عليه حضور الشاعر حيثما كان .
أما الناقد الذي اتكأ على هذا التعبير، ليوسِّع من مجاله، ويختلق له الأسانيد والأدلة والبراهين، فإنه جهد ساعياً إلى تغطية قصوره في فهم النصوص الحديثة، والأجد في كتابة القصيدة المعاصرة التي قطعتْ شوطاً كبيراً، من التحوّلات الفنية
والأسلوبية والإستاتيكية في كتابة نسق جديد ومستحدث للقصيدة، لغرض مواكبة العصر والتماهي مع الأزمنة الحديثة .
هذه هي المشكلة الأساسية، ولو رجعنا قليلاً إلى الوراء، ورأينا حال الشعر، وقارنّاه باليوم، لوجدنا الشعر في هذه الأزمنة أكثر انتشاراً من السابق. لقد ساعد حتى الفيس بوك على انتشاره، فنراه يتمدَّد، ويتّسع ويصبح اكثر ذيوعاً من الماضي. فللشعر علاماته السرمدية ، وهي تلك السيمياء المُضللة ، والخيمياء الموحية، والرهبة المُعجزة لدى كل من يكتبه ويقرؤه ويدرسه ويطلع عليه.
الشعر اليوم بدأ يصعد معراجاً جديداً مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث، فالفيس بوك ساعد على انتشاره، فلقد لفتني أن أناساً بعيدين عن الشعر مسافات، أو يعدّونه أمراً صعباً، أو خاصاً بفئة معيّنة ضالة، صار الآن من أولوياتهم. ثمة رسامون على مواقع التواصل الاجتماعي ينشرون شعراً او ما يشبه الشعر، أو أنهم يحاكونه على أنه شعر، وثمة نقاد أيضاً وقصاصون وبعض الروائيين الذين يعجزون عن وضع سرودهم الطويلة والمملة على مواقعهم، حيث لا يقرؤها أحد، لجأوا إلى كتابة الشذرات والفلذات والخزعات الشعرية، لذا الكل تقبل ما يأتي من الكل برحابة صدر، فالشعر يبقى هو الشعر، حتى لو كان كاتبه حمّالا في سوق بغدادي، مع احترامي للمهنة الشريفة، فالنص هو الذي يفرض فنه ورؤيته ونسقه، والشعر ليس حكراً على فئة محددة، رغم تسميته بفن القلة، كما جاء على لسان الشاعر الإسباني الكبير رامون خمينيث، وتم تداوله من بعده ووسّع من مدلوله الشاعر المكسيكي اكتافيو باث، فالشعر مرتبط بالحياة، فهو الهواء، وهل بمستطاع أحد أنْ يمنع الهواء من التسرّب إلى رئة الكائن البشري؟
فإذا كان الشعر مرتبطاً بالحياة العامة، على حد تعبير الشاعر الإنكليزي ستيفن سبندر، فإنه حقاً كذلك، وإذا كانت الحياة سؤالا، فهو جوابها. الشعر له علاقة بكتلة الأحاسيس والمشاعر والتهجّدات الباطنية. الشعر لن يموت كما يشيع بعض حسّاده، أو بعض ناشريه، أو بعض قرّائه الكسالى الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبيرية وجمالية معينة، ولم يسعوا إلى تطوير ذائقتهم الفنية. الشعر هو فنّ مثل أيِّ فنٍّ آخر، أصابه تطوّر جمالي ملحوظ، وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة والمجاورة له، كالموسيقى والرسم والسرود عالية الفن والمُكنة. لقد تطوّر الشعر، وشهد ثورات عديدة، استهدفت الشكل والمحتوى وطرائق التعبير، وجاءت على كل تاريخه، لتقدّمه بحُلة مختلفة، وعلى سبيل المثال، هل يشبه السياب، مُجدّد الشعر العربي الحديث، أبا الطيب المتنبي في طريقة تفكيره ونموذجه الشعري، وهل أدونيس يشبه في أسلوب كتابته الشعرية أبا تماَّم، وهل نيما يوشج مُجدّد الشعر الإيراني هو نفسه عمر الخيّام، وهل أودن وإليوت، هما ميلتون وتشوسر الإنكليزيان. من هنا شهد الشعر العربي، انعطافة تاريخية حادة، مسّتْ هيكله وبنيانه ورؤيته الفنية وسياقه التعبيري، ليحصل في المآل، على أساليب وتشاكيل وبنيات منيفة، حداثية وعصرية ومتجاوزة، وصيغ جمالية رفيعة، مصحوبة برؤىً بنيوية متعددة، طرأت على سياقه العام برمّته، ليكون الأكثر تأثراً ببقية الفنون كلها، ومن هنا أيضاً جاءت التصنيفات على الفنون الباقية بنعتها بالشاعرية، سينما شاعرية، لوحة شاعرية، قطعة موسيقية تشبه القصيدة، جوّ شاعري، رواية كتبتْ بلغة شاعرية، نحت شعري، باليه مثل سونيتة، أوبرا شاعرية، وغيرها من التعابير الجميلة التي وصِمَتْ بالشاعرية.

سوق الشعر

يتحجج ناشرو الشعر بأنهم لا يبيعون كتب الشعر بمجملها، شعراً ونقداً ودراسة، وأن الشعر سوقه «واقفة»، أو أن الشعر هذا ليس زمانه، وأنّ القراء الآن يبحثون عن السهل، والممتع في القراءة والأكثر مبيعاً، متناسين أن الشعر هو عدو الانتشار والتداول العام، لكونه يحتوي على عناصر فنية كثيرة، على رؤى دلالية، وحزم من الاستعارات والمجازات والتعابير الكنائية الكثيرة، ولكونه فناً خاصّاً، فهو يحنو على الغنوصي والهرمسي لمخاطبة الجوّانيات، والقاع السفلي والمعتم والعميق للإنسان الذي تطارده السرعة والقضايا اليومية الحديثة، والضجيج الدائر في كل زاوية وبقعة قصوى من هذا العالم .
لذا الشعر هو شقيق للصمت، هو يعيش في اللامرئي، في الحلم والخيال المتحلق، والرغبة الجانحة والمستطيرة لدى الكائن، هو العطر الخافق الذي لا يُرى، هو الوهم والحقيقة والسرّ المتواري عن الأعين والمرئيات. إنه من سكان الجوانح والأفئدة والمخفيات، إنه تستُّريٌّ، ملمومٌ على نفسه، غامضٌ كماسٍ وشفَّافٌ كبلور، إنه خبز من نوع آخر، لا يُشبع حين تأكله، بل تجوع إليه مرة تلو المرة.
أما الذين يتحدّثون عن موت سوق الشعر فهم الجشعون، الناشرون الطمّاعون، الذين يريدون من الشعر أن يكون على الأرصفة، مثل كتب الطبخ وكراريس الدين والسحر والشعوذة والروايات الجنسية التي تحقِّق الرغبة السريعة لمن يسعى اليها .
أجل الشعر لدى الناشر العربي هو بضاعة كاسدة، هذا صحيح لأنه لا يبيع مثل الكتب الإيروتيكية التي ينشرونها، أو مثل كتب المذكرات، والسير الذاتية السياسية للزعماء والساسة والحكام، ولهذا يطلبون من الشاعر دفع تكلفة ديوانه. ‘نه فعل مشين هذا، حدث وانتشر وصار معمولاً به لدى الناشرين كقانون، أستثني طبعاً الناشر المثقف والاستثنائي، غير الجشع والمستميت على المال القادم من المبدع العربي الفقير، هذا ناهيك عن المستوى الدراسي والتعليمي للشعوب العربية التي تدنَّى مستواها العلمي والأكاديمي لأسباب لا تحصى، أبرزها الحروب المجانية التي حصلت في المنطقة، بدءاً من حربي الخليج الأولى والثانية، ثم حروب المنطقة الحالية، في كل من العراق المنهار، على جميع الصعد، ولبنان المنهار اقتصادياً وسياسياً، وحرب اليمن والسودان وليبيا وسوريا الجريحة التي تذبح يومياً، حيث تشرَّد شعبها بالملايين، وهُدمتْ بيوتها ومدارسها، وتدنَّى تعليمها إلى الصفر، ولا ننسى كذلك التنظيمات الإسلامية التي روَّعت الآمنين، وحطتْ من قدر ومستوى التعليم في المنطقة، وهدَّدتْ أمنها وعرّضتها للتخلف والتراجع لحقب طويلة، ناهيك عن حروبها الطائفية والإثنية والعنصرية، كل ذلك في اعتقادي أدى إلى تراجع بيع الكتاب، على نحو عام، وجاء هذا الأمر على حساب التعليم ونهوضه، وعلى حساب تطوير مؤسسات البحث العلمي، ونشر الفكر التنويري، ذلك الطامح إلى إلغاء كل الغايات والمطامح الضيقة للجماعات الظلامية التي تحاول زرع العتمة، بدلاً من إنبات النور وانتشاره، النور يساعد الكتاب على نشره وإضاءته، بينما الظلام، يساعد على نشر السلاح وتعميمه على الفئات المتقاتلة، والمتخلفة، من أجل تهديم حياتنا وتخريب تاريخنا وحضارتنا وأصولنا، ونهب ثرواتنا، عوضاً عن بناء الجمال، وترسيخ الفن والعلم والغايات المشرقة والمعبِّرة والمفيدة للمجتمعات العربية وللإنسانية جمعاء.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى