أدب الشهادة

عبد اللطيف الزكري
يرتبط أدب الشهادة، بالجرائم التي ترتكب في حق شعوب بكاملها، أو في حق إثنيات متخالفة في العرق والدين داخل أمة واحدة. وقد ازدهر انتشار هذا الأدب، في العصر الحديث، لانتشار الحروب والمجاعات وأهوالهما الفظيعة في الحياة العامة للناس. لقد كتب أدب كثير حول الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبقيت المرويات حولهما شاهدة على ما خسره الإنسان في حياته الحضارية.
ومن يقرأ هذا الأدب يجده يحفل كثيرا، بتصوير معاناة الإنسان في تينك الحربين كما يحفل بأدبيته مما يبقيه حيا في نفوس قارئيه. نجد هذا الأدب مزدهرا غنيا حافلا في أدب أولئك الذين خاضوا الحربين أو الذين كانوا شهودا عليهما، عاشوا فظائعهما وأوجاعهما ودمارهما. وما كتب في الأدب الياباني وحده، يملأ مكتبة كبيرة بكاملها، بل إن الرواية اليابانية التي كتبت حول الحرب العالمية الثانية، وبالأخص حول دمارهيروشيما وناغازاكي هي مما يشهد على محنة الإنسان في العصر الحديث.
وما كتبه أدباء عالميون حول محنة الإنسان في حروب أخرى، اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، كما نجد عند الأديب الفرنسي جان جينيه في كتابه «صبرا وشاتيلا» أو ما كتبه الأديب الإسباني خوان غويتيسولو حول سراييفو، لقد كان هذان الأديبان مشدودين إلى محنة الإنسان باعتباره إنسانا يعاني وجوده الحياتي معاناة أليمة تصطرع فيها قوى التدمير وقوى البناء. ولا خلاف في كون الأدباء الفلسطينيين هم الأكثر إنتاجا في (أدب الشهادة) من غيرهم من الأدباء، لما عاناه شعبهم من دمار حضاري يكاد يكون أغرب دمار حضاري عاناه شعب من شعوب العالم في العصر الحديث. ويعد الأديب غسان كنفاني واحدا من رموز (أدب الشهادة) في الآداب العالمية المعاصرة. واستطاع بتجربته الفذة ومهارته الجمالية العالية أن يمنح هذا الأدب الحظوة في الانتشار والتلقي الكبير والاهتمام الواسع، لما تنطوي عليه أعماله الروائية والقصصية والمسرحية وحتى النقدية من قيمة فنية وفكرية كبيرة. ففي أدب كنفاني ما يشهد على ما يسميه ميغيل أبنصور، الرعب المعاصر، رعب الوجود والحياة والبقاء الذي هدد ويهدد شعبا بالفناء والاندثار أو أهوال المصير. وفي هذا الأدب كتاب للآتي من الأجيال لتقرأ فيه مدونة سردية حول المعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ الاحتلال والتشريد بدءا من عام 1948 وما بعده، وإن كان المؤرخون قد اهتموا بجميع مراحل الاحتلال، وبالأخص منذ الاحتلال الإنكليزي إلى اليوم.
أدب غسان كنفاني أدب يشهد على الدمار والضياع والشتات، وعلى المناخ العام الذي أحاط بكل ذلك، لا لأنه رأى ما يشهد به، بل لأنه عاناه وعايشه وخاض آلامه، وهذا ما يجعله أدبا مختلفا عن شهادة جان جينيه أو خوان غويتيسولو اللذين رأيا ما كتبا عنه باعتبارهما شاهدي عيان لا شاهدي فقدان. لقد فقد غسان كنفاني بلده وساح في الأرض (طلبا للحياة) ولما يبقي هذه الحياة في كفاح مرير يجد فيه الأديب ذاته إزاء مصير يشمله مع شعبه، وما يميز غسان كنفاني أنه استطاع كتابة (أدب الشهادة) بما يجعله أدبا، وبما يحمل من رؤى فكرية وحضارية وفنية. لم ينس كنفاني الأدب وهو في خضم تدوين شهادته على حياة شعبه، بينما خاض بقلمه الصحافي في هذه القضية التي يكتب عنها صراعا بشكل آخر: صراعا سياسيا قويا وراجا، يعصف بكل الذين يمحونه أو يمحقونه. وما بين السياسي والأديب في شخص كنفاني يوجد الفارق بين كتابة وكتابة: الكتابة السياسية والكتابة الأدبية. وإنه لأمر في غاية الصعوبة كتابة الأدب عن الألم النازف دونما توقف. لقد انصهر الجمال مع الآلام فولد أدبا سيمكن الأجيال اللاحقة، حين العودة إليه، أن ترى حقيقة ما جرى. وهذا واحد من دوافع الكتابة عند كُتَابِ (أدب الشهادة). إنهم يكتبون لمن يجايلهم ويعاصرهم من الناس، كما يكتبون للأجيال القادمة. ولعلها الوظيفة الأساس لـ(أدب الشهادة)، وظيفة التدوين والكتابة لحياة يراد لها أن تندثر وألا تبقى وألا يدل على وجودها شيء. إنه أدب يقاوم الإفناء البشري المتعمد.
وهناك إبدال آخر من (أدب الشهادة) هو الذي يواكب حياة الشعوب في نضالها الإنساني ضد الكوارث والأوبئة والمجاعات، ويتصدر الأدب الإفريقي هذا النوع من الأدب، وهو ما يعرف في النقد الثقافي، المنتشر انتشارا كبيرا في الآونة الأخيرة، بالأدب ما بعد الكولونيالي – هذا الأدب الذي يهتم بحياة الشعوب الإفريقية في ما تبقى لها من حياة بعد انسحاب الاستعمار، وما خلفه بعد انسحابه من تراث الفاجعة التي يعمل هذا الأدب على إظهارها وتصويرها. إن إفريقيا المصنفة ضمن منظومة العوالم في إطار العالم الثالث، لها أدب نابع من فضاءاتها المحلية الموغلة في التاريخ والحضارة الإنسانيتين. ومن يقرأ لكبار أدباء إفريقيا يثيره هذا الإحساس النابض بالفاجعة والآلام الإنسانية المتكررة. «أشياء تتداعى» لأتشوا أتشيبي أو أعمال وول سوينكا، وبالأخص سيرته «مذكرات سجين» التي تعد واحدة من قمم (أدب الشهادة) في العصر الحديث، لأنها تحكي المعاناة السياسية التي يعانيها أصحاب الرأي المختلف في زماننا، وهو أصعب إبدالات (أدب الشهادة) لأنه يقاوم شراسة السلطة، وهي من أعتى ما يعاني منه الإنسان دائما، خاصة إذا آمن بما يناقض إيديولوجيا السلطة القائمة أو الحاكمة.
كتب سوينكا في الفصل الأول من «مذكرات سجين»: «لقد أخذ هذا الكتاب أشكالا كثيرة، منها مسألة ما الذي يجب أن يحتويه. وما الذي يجب تأجيله. ما الذي يجب أن نمحوه كليا. هذا كله كان خاضعا لمشاكل الملاءمة لقدرتي المستمرة على التأثير في الأحداث داخل بلدي». إن سوينكا السياسي لا ينسى سوينكا الأديب، ولذلك فهو يؤمن بهذا الأدب الذي يكتبه إيمانا جماليا وسياسيا، إذ الملاءمة بين التأثير في الرأي العام والشكل الأدبي الذي يكتب فيه، مسألة تنال الاهتمام من لدن الأديب. وهذا هو الذي يجعل (أدب الشهادة) يحظى بالتداول والتلقي. إن الجماهير عطشى إلى من يرويها بماء الحقيقة حول ما يقع ويجري ويحدث من أحداث جسام، لكن هذه الجماهير المفترضة لا تنسي الأديب الاهتمام بما يكتب، ليحقق لكتابته القيمة الأدبية التي بها ترسخ وتبقى، في أيدي هذه الجماهير العطشى ولجماهير أخرى ستأتي بعدها، ستكون في حاجة لمن يقول لها حقيقة ما جرى، ولن يكون أحسن أو أفضل من (أدب الشهادة) أدبا أو فكرا أو دليلا (شهادة) على ما جرى.
يأخذ (أدب الشهادة) دوره في الحياة من الوظيفة التي يؤديها، كما من القيمة الجمالية التي ينطوي عليها. إنه أدب قبل أن يكون شهادة. وبما أنه أدب، ففيه حرارة مشتعلة بالجمال يحتاجها المقرورون بجوائح الحياة، الذين يرغبون في تدفئة جمالية تنعش ذواتهم ومخيلتهم، وتمكنهم، في نهاية المطاف، من حمل مشعل الحياة الإنسانية في الحضارة التي يحافظون على بقائها أو يعملون على ازدهارها، فكل جيل يجد قدره بيده، كما يجد نفسه إزاء حياة كائنة وأخرى ممكنة. وهذه الحياة، تحتاج دائما إلى أدب يواكبها ويتجاوزها، وفي المواكبة والمجاوزة إبداع يتدفق تدفق الحياة في الكون، بكل ما فيه، من نضال وصراع ومواجهة ومقاومة وإنجازات إنسانية دائبة الوجود بوجود الإنسان ذاته، صانعها ومحققها والعامل على استمراريتها.
توجد مسميات أخرى لأدب الشهادة، منها (أدب الحرب – الأدب ما بعد الكولونيالي – الأدب الزنجي – الأدب المقاوم)، إلا أن اصطلاح (أدب الشهادة) يجمع كل هذه الآداب وغيرها مما يماثلها، ولم ترد الإشارة إليه. فأدب إيمي سيزار وليوبولد سيزار سنغور الذي عرف باسم الأدب الزنجي، ولقي رواجا كبيرا لقيمته الأدبية، هو أدب شهادة، لأنه يواكب تطلعات الإنسان الملون إلى حياة كريمة، مفعمة بالحرية والاستقلال والإرادة في بناء المصير والمستقبل. إن أدبا يشهد على الحياة، نشدانا للحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة هو أدب يملك في ذاته القدرة والجرأة اللازمتين لمواصلة الحياة، أما أن يملك هذا الأدب، أهم مقومات الأدب المتفق عليها في العصور كلها، وليس في العصر الذي ظهر فيه فحسب، فهو أدب يسير إلى مستقبل الحياة.
لقد خصصت مجلة «أوروبا» الناطقة بالفرنسية عددا مزدوجا (1042-1042) لشهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط لعام 2016 لـ(الشهادة في الأدب)، وتضمنت ثماني عشرة مادة ما بين دراسات وحوارات نقدية أدبية وهي مادة، رغم كونها مرجعية – ذات قيمة ثقافية كبيرة – في حاجة إلى مراجعة ومحاورة نقد- نقدية.
إن الأدب، كل أدب، هو شهادة صاحبه على الحياة التي يحيا في هذا العالم الذي نعبر أزمنته وأمكنته عبورا، هو دائما سريع، فلا يبقى من أثر عبورنا هذا إلا ما نكتبه حول هذه الحياة لنقول كلمتنا قبل أن نمضي، فإذا مضينا تركنا وراءنا ما يدل علينا.
(القدس العربي)