‘حنين إلى نكهة الصبا’ .. الحياة في حطام الجسد

كه يلان محمد
قد يجوز الحديث عن أزمة ناجمة من تضاؤل الموضوعات التي تناسبُ أجناساً أدبية معينة، غير أن هذا القلق لا يوجد ما يبرره بالنسبة للسرد الروائي، لذلك ثمةَ من يعلن بأن الرواية ستنفردُ بالساحة الأدبية. بالطبع فإنَّ في الواقع ما يساندُ هذا القول كما أن توظيف تقنيات سردية في بنية أشكال أدبية أخرى يكشفُ ما وصل إليه الجنس الروائي من القدرة على الإكتساح بحيث يبدو مجرةً تلتهمُ كل ما هو خارجها لتعيدُ تشكيله في صور وأبنية متنوعة.
بجانب ذلك فإن تلاشي الحدود بين الأجناس الأدبية قد خدم فن الرواية قبل غيره، من هنا يكون سر التجدد في الموضوعات ونحت الثيمات المغايرة في عالم الرواية، واستلهامه لتجارب مختلفة إذ فضلاً عن رواية السير الذاتية ورواية الخيال العلمي قد امتدت اهتمامات الرواية إلى تناول مشاكل البيئية والإلتفات إلى الأمراض الخطرة وتمثيلها في سياقات أدبية.
ويبنى الكاتب المغربي المقيم بفرنسا الطاهر بن جلون روايته “حنين إلى نكهة الصبا” / الصادرة من المركز الثقافي العربي على صراع الإنسان مع عدو داخلي وما يخسره في كيانه مقابل الإنتصار وإضافة أيام أٌخر إلى لوحة حياته.
العمل مُقسم إلى 16 مقطعاً يرسمُ تجربة السيد فوران مع سرطان البروستات، فالأخير عالم في الرياضيات قد توفت زوجته كاثرين عقب إصابتها بالمرض نفسه في الصدر.
يحاول الكاتب من خلال مقدمة الرواية أن ينحى عن نفسه الإنتساب إلى ما يسردهُ ولا يكون دوره غير نقل ما شاهده لدى صديقه وما سمعه منه حول مرارة التجربة وحجم القلق بحيثُ تصبحُ الحياةُ بعد إجراء العملية حطاماً كيف تكون طبيعة الحياة حين يُنزع لدى الرجل القدرة على الإستمتاع بعلاقات حسية خصوصاً إذا كان هو منغمساً في التجارب الحسية؟
هل يمكن أن يلتذ المرءُ بالحب وجمالياته بدون إقامة علاقات جسدية؟ الجَسدُ هو قدر الإنسان فهو حاضر غير قابل للتجاوز على حد تعبير الفيلسوفة الإيطالية مشيلا مارزانو، ولكن ماذا يكون رد فعل الإنسان حين يتحول الجسد إلى عبءٍ ويخونه على كل المستويات؟ هذه الأُمور والهواجس هي ما يدور حولها عمل الطاهر بن جلون.
• (دال) العنوان
يفطن صاحب “ليلة القدر” إلى أهمية العنوان بوصفه معبراً إلى تفاصيل النص لذلك فهو يعنون أعماله الروائية بمفردات وكلمات تفيض بدلالات شعرية أو تحيلك إلى الموروث الدينى أو تنقل بك إلى أبعاد مكانية، هنا في هذا العمل يَضَعُكَ أمام النزاع بين زمنين، زمن كان الجسد فيه فتياً مشتعلاً بالرغبة، وزمن لم يعد الجسد فيه قادراً على أن يجدف في نهر الشهوة.
يشارة إلى أن كلمة “الحنين” بحد ذاتها تحمل معنى النزاع والإشتياق الصامت وفقاً لما ورد في لسان العرب, إذن يستمرُ النزاع لدى الشخصية الأساسية نزاع من داخل ونزاع الذات مع الآخر فضلاً عما تنثالُ على ذهنه من أسئلة ذات أبعاد ميتافيزيقية، لماذا قُدرَ له أن يعيش في هذه التجربة الصعبة مرتين في الأولى تعرف على المرض الخبيث عندما غرز أظافره في جسد زوجته كاثرين ومن ثُمَّ يبث سمومه في جسده. إلى أن يقتنع بشرح دكتور ج. ف بأن ليس كل شيء مُصادفة بل تلعبُ الوراثة دوراً كبيراً في تركيبة جسد الإنسان.
ما فتيء القلق ينهشهُ إذ يلجأُ عالم الرياضيات إلى الشعوذة وهنا وجه المفارقة كيف يتصرفُ الإنسانُ في لحظات فارقة ويفقد الثقة حتى بما كان يؤمن به. وما يزيدُ من حدة القلق أنَّ سنه في منتصف الخمسينيات ويُصادفُ من ينصحه بعدم التجاهل لقيمة اللذة الجسدية. ويستعيد صورة الخصي في عالم الحريم كما لا يغادر طيفُ صديقه داميان المصمم البارع لديكور الأفلام، فالأخير فضل المعالجة ولا الإستئصال، غير أن المرض تفاقم وإنتشر دون أن يثنيه ذلك من حب الحياة لأنَّ الإنسان برأيه يعتاد الحياة حتى ولو لم تبادله الحب بخلاف أرنست همنغواي والشاعر الإيطالي العظيم سيزاربافيز كلاهما إنتحرا لشعورهما بوجود المشاكل تحول دون الشعور بمتعة العلاقات الجسدية.
يتوغل لوفران في سراديب ماضيه ويتذكر النساء اللائي أحبهنَّ وسلك معهنَّ الدروب الموصولة إلى أقاصي اللذة.
الأكثر من ذلك يستحضر الراوي تجارب أشخاص عانوا من بروستات السرطان مثل فرانسو ميتران وصديقه الذي أراد معالجة المرض من خلال الإفراط في خوض العلاقات الجسدية, لكن عالم الرياضيات الذي يحبُ الشعر يُقرُ بعجزه في إختبار المجازفة لأنه لا يمتلك سيف ديموقليس، ولا أي مأثرة لذا سيعوض متعة الجسد بغيرها.
• بصحبة الكوابيس
مع أن أعراض مرض البروستات لا تبدو ظاهرة على الإنسان كما أن إجراء العملية واجتثاث الغدد لا يتركُ أي أثر على جسده لكن إنتقاص أي جزءٍ في بنيان الجسم لا يمرُ دون وجود تداعيات شديدة الوطأة على المستوى النفسي، إذ يصبحُ الراوي مهووساً بالسؤال عن كل من يراه يمشي ويمارس الرياضة هل لديه مشاكل في البروستات.
زدْ على ذلك فإن تغير تعامل الأقارب والمحبين يخلف الشعور بالوحدة والعزلة القاتلة، هذا فضلاً عن الأحلام ذات طابع غرائبية حيثُ يرى عالم الرياضيات نفسه واقفاً في الفاترينة تمر أمامه النساء الفاتنات، أو يجد امرأة تهينه وتضربه في المقتل. ولاغرابة في مثل هذه الحالات أن تراود الإنسان فكرة الإنتحار.
لكن لا يتنازل الراوي عن الحياة مع خضوعه لسلسلة من فحوصات psa،IRM فهو قبل أن يودع مصدر اللذة الجسدية يقضي أوقاتاً ناضحة بالمتعة مع كاتي كأن بذلك يطوى فصلاً من الحياة ليبدأ فصلا جديداً غريب الشكل والملامح، قد لا تجد فيه النكهة ولا اللذة يغلبُ التوتر الشديدُ على إيقاع السرد ويتعدى إلى المتلقي وهو يتماهى مع البطل الذي يصارحه الطبيب بضرورة خضوعه للمعالجة الإشعاعية خلال سبعة وثلاثين جلسة، وهو يعتنق بعدم جدوى الإنفعال والنرفزة وتعامل مع الواقع كما هو إذ يسمي الراوي الفصل الجديد من حياته “الحياة بدون”.
وفي القسم الأخير يذكر المشاهير الذين أرغمهم القدر على تغير حياتهم والتخلي عن جزء كبير من اهتماماتهم أو التأقلم مع طبيعة الحياة أياً كان شكلها هذا ما حصل لـ جورج لويس الذي أمضى الربع الاخير من حياته كفيفاً وهو الملازم للمكتبة والقارىء المثابر، كما أن لويس بينال الذي فقد سمعه صور أخر أفلامه بطريقة زمن الأفلام الصامتة.
في نهاية العمل يعطيك الكاتبُ شعوراً مختلفة لما جربته في البداية إذ أن الحياة لا تقبل الإختزال في بعدٍ واحد ودائما هناك ما يبرر استمرارها.
(ميدل ايست اونلاين)