ستراك سركيسيان: النهر دائم الجريان يتوقف

شادي علاء الدين

رحل عازف الطبلة الأبرز في لبنان والعالم العربي ستراك سركيسيان بعد نصف قرن من الإيقاع، كرسه نجما أوحد في مجاله.

نجح ستراك في أن يخلق للطبلة نجومية كانت ممتنعة قبله، فلم تكن هذه الآلة تحظى بالكثير من التقدير والاحترام، بل كانت تعاني من انتشار نظرة تبخيسية تعتبرها آلة بلا وزن ولا قيمة.

قلب ستراك معايير التعامل مع آلة الطبلة بأدائه المعجز الناتج عن التمرين اليومي الشاق، والنزعة الاختبارية والتجريبية التي حرصت على استخراج الإمكانيات الخفية الكامنة في قلب هذه الآلة وصبها في قالب خاص.

تحولت الطبلة مع ستراك إلى ضرورة لا غنى عنها للفرق الموسيقية بعد أن كان الإيقاع في التسجيلات مقتصرا على آلة الرق، وخلق حالة دفعت بكبار المطربين إلى التهافت على لبنان لتسجيل أغنياتهم بمرافقة آلته الفريدة وعزفه الاستثنائي.

دفع الناس إلى تذوق الإيقاع بطريقة جديدة، وفتح أبواب متعة إيقاعية سماعية كانت مستغلقة على الأذهان والأسماع قبله، واستطاع، وهو الداخل في عالم الفن من خارج باب التعليم الأكاديمي، أن يؤسس لمناهج أكاديمية خاصة تلاحق ما أسس له من خصوصية في استعمال الطبلة، وتنقله إلى الأجيال الجديدة.
كل الجسد يعزف

المؤلف الموسيقي والمغني زياد الأحمدية يعتبر أن ستراك كان يتميز “بأنه يعطي انطباعا بأنه يعزف بكل جسمه، وكان يقدم مشهدية مبهجة من خلال ابتسامته التي لا تفارق وجهه، والتي تضفي على الإيقاع الذي يقدمه حرارة وزخما. هذا الرجل كان يعزف برأسه وعيونه، وكان يشكل حالة فريدة في هذا المجال”.

يلفت الأحمدية إلى أن ستراك كان يستعمل “طبلة خاصة وجهها مصنوع من الجلد وليس من مادة البلاستيك، وحين نسمع أيّا من التسجيلات القديمة يمكن تمييز صوت آلته لأنها تقدم صوتا فريدا”.

يشير زياد إلى أن “حالة ستراك كانت حالة من تطوير الموهبة، فالرجل لم يدرس في معهد موسيقي، ولكنه طوّر موهبته وصقلها حتى صار علامة فريدة في مجال الإيقاع″.

الاهتمام كان منصبا في حياة ستراك وفق الأحمدية على الاستمتاع بعزفه ولكن لم تنشأ محاولات جدية تحاول درس أسلوبه وقد يكون من المبكّر تلمّس ما أسّس له ستراك من خصوصية في مجال الإيقاع.

هناك التفاتات لستراك كما يؤكد الأحمدية من الناحية التقنية حيث يحاول البعض ملاحقة أسلوبه تقنيا للكشف عن خصائصه في ما يخص سرعة العزف. هذه المحاولات تبقى “محدودة وتأتي في إطار قد لا يكون مفيدا لأنها تهمل النظر إلى روح عزف ستراك، وربما سينتج عنها تدوين أكاديمي بارد يفصل بين التقنية وتلك الروح التي كان ستراك يمنحها لأيّ مقطوعة يؤديها”.
“فكروني” بطبلة ستراك

يعتبر فريد بوسعيد أستاذ الطبلة في المعهد العالي للموسيقى أن ستراك “أسس حالة لا تتكرر وكل الأجيال التي عاصرته والتي ستأتي بعده تتمنى أن تكون على مثاله، فقد استطاع أن ينتج حالة استثنائية، ولكن أهميته لا تقف عند هذه الحدود فما لا يعرفه الكثيرون أن ستراك قدم عدة ألحان مميزة”.

يضيف بوسعيد “منح ستراك الطبلة هوية شخصية وخاصة. المثال الأبرز على ذلك أن السيدة أم كلثوم كانت تستخدم الرق في أغانيها. كانت أحيانا تستخدم البنقز مع الرق، ولكن حين وصل إلى أسماع السيدة أم كلثوم ذلك الصيت الكبير الذي رافق اسم ستراك، واطّلعت على عزفه، استدعته وطلبت منه المشاركة في تسجيل أغنية فكّروني. صوت الإيقاع الواضح في لحن هذه الأغنية هو صوت طبلة ستراك المميزة”.

تحولت الطبلة مع ستراك إلى ضرورة لا غنى عنها للفرق الموسيقية بعد أن كان الإيقاع في التسجيلات مقتصرا على آلة الرق
لم يكن ستراك أكاديميا ولكنه خلق كما يشير بوسعيد شبكة تأثير طالت الأكاديميين وغير الأكاديميين، والجدير بالذكر في هذا الصدد أن منهج الطبلة في الكونسرفاتوار اللبناني هو من وضع إيلي الفقيه الذي كان أحد تلاميذ ستراك وقد رافقه فترة طويلة وكان يعقد عليه آمالا كبيرة.

يلفت فريد بوسعيد إلى “سيادة عقلية عامة تنظر إلى آلة الإيقاع نظرة تبخيسية مقارنة بنظرة التقدير التي تحظى بها الآلات الوترية”. ويعيد الأسباب إلى “وجود منظومة قيمية تعتبر الطبلة آلة رحلات وتجمعات ميدانية وتهييج جماهيري، وهذه النظرة خاطئة تماما فلا يمكن لأيّ أوركسترا أن تسير بدون إيقاع″.

يؤكد أن “الإيقاع ينتشر في كل شيء ففي مشية الإنسان هناك إيقاع، ومن هنا فإن ضابط الإيقاع هو من يضبط أداء الفرقة الموسيقية وفي حال اختل أداؤه فإن أثر الخلل يطال كل أداء الفرقة”.

يعبر بوسعيد عن أسفه لوجود منطق “يعتبر الطبلة آلة رخيصة” إذا صح التعبير. ويؤكد أن هذا المنطق ينم عن “جهل لأن كل آلة لها دورها وحضورها، ولولا ذلك ما كانت وجدت واستمرت”.

خصوصية ستراك كما يشير بوسعيد تكمن في أنه “جعل العزف على الطبلة أسلوب حياة، فقد كان يتمرّن لساعات طويلة كل يوم. أخبرني ذات مرة أنه كان ينسى نفسه خلال التمرين لدرجة أن أصابعه تنزف دون أن يشعر بذلك، وهذا ما جعل صوت طبلته متفجّرا ولا مثيل له وكأنّه رصاص”.

يختم بوسعيد حديثه قائلا “شخصية ستراك كانت قيادية وقد تناغمت شخصيته مع الصبر والتمرين الطويل، وأنتجت هذه الظاهرة الفنية الخاصة التي جعلت منه نجما أوحد في العزف على آلة الطبلة”.
مفهوم جديد

يضيء أمين سر نقابة الموسيقيين المحترفين نقولا نخلة على محطات من سيرة وعمل ستراك وعلاقته معه. يقول في هذا الصدد “من حسن حظي أني دخلت في فرقة المطربة الكبيرة سميرة توفيق، وتعرفت على ستراك، وكان ذلك في العام 1988 وتوطدت العلاقة منذ ذلك الحين وبقينا سويا إلى أن وافته المنيّة”.

يضيف نخلة “ستراك كان علامة فارقة في تاريخ الفن اللبناني فقد نجح في نقل الطبلة إلى مستوى جديد يختلف تماما عمّا كان سائدا في الزمن القديم، فقد أعطى للطبلة دورا فعالا وخاصا بعد أن كانت مهملة. منح الطبلة حركة ومعنى وجعلها قادرة على أن توصل رسالة”.

يشير نخلة إلى أن ستراك “فجّر ثورة في عالم الإيقاع تجلّى أثرها في الأغنية اللبنانية التي منحها طابعا خاصا نطلق عليه نحن الموسيقيين اسم ‘الهنك اللبناني’. حضور ستراك دفع بكبار المطربين من أمثال محمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش إلى القدوم إلى لبنان وتسجيل أغنياتهم في أستوديو بعلبك مع طبلة ستراك”.

خاض ستراك تجربة التلحين للفنانة سميرة توفيق في الفترة الأخيرة ولكن هذه التجربة لم تكن هي التجربة الأوسع في تاريخه الفني، فلديه أكثر من 45 تسجيلا وهي تتضمن مؤلفاته الموسيقية
ميزة ستراك حسب نخلة أنه كان قادرا على تحويل كل ما يتأثر به إلى إيقاع، وقد رافقته هذه الميزة منذ انطلاقته الأولى واستمرت معه حتى لحظاته الأخيرة فقد كان “شخصا مرهفا حساسا يبكيه مشهد في فيلم أو في مسلسل وكان قادرا على التعبير عن شحنة الإحساس هذه عبر ترجمتها على آلته. من هنا حين أقول إن ستراك جعل الطبلة تنطق فإن ذلك ليس مبالغة على الإطلاق”.

خاض ستراك تجربة التلحين للفنانة سميرة توفيق في الفترة الأخيرة ولكن هذه التجربة لم تكن هي التجربة الأوسع في تاريخه الفني، فستراك لديه أكثر من 45 تسجيلا بين أسطوانات وسي دي وهي تتضمن مؤلفاته الموسيقية.

لم يكتب ستراك منهجا أكاديميا لتعليم الطبلة وهو لم يتعلم العزف بشكل أكاديمي ومنهجي، ولكن المفارقة اللافتة التي يشير إليها نخلة “تكمن في أن من أخذوا عنه استفادوا من الحالة التي أسّسها لبلورة منهج أكاديمي لتعليم العزف على آلة الطبلة، يمكن اعتباره منهجا غير تقليدي، لأنه يضم خلاصة تجارب ستراك الذي لم يتوقف عند حدود أسلوبية محددة بل كان دائم الاختبار والتجريب”.

يلفت نقولا إلى أن صعود نجومية ستراك “كان في السبعينات من القرن العشرين وهي الفترة التي يطلق عليها تسمية الزمن الجميل، لأنها شهدت وجود عدد كبير من كبار الفنانين من موسيقيين ومطربين”.

ويؤكد أن نجاح ستراك في تلك الفترة وبروزه كنجم أوحد في مجاله “يدل على أنه استطاع أن يخلق حالة فريدة، وأن يفرض نفسه بقوة في زمن الكبار”.

يشدد نخلة على أن الأجيال القادمة ستعرف أن ستراك “غير مفهوم النظر إلى آلة الطبلة، وشكل مفصلا في التعامل معها. سابقا لم تكن الطبلة تستعمل في التخت الشرقي بل الرق والآلات الفردية من قبيل القانون والعود والناي. لم يكن ما نشهده اليوم من توسع في استخدام الآلات وإدخال الإيقاع سائدا. يشهد لستراك أنه ساهم في إحداث هذا التغيير، وإدخال الطبلة في قلب التخت الشرقي وجعلها جزءا أساسيا منه”.

يطلب نخلة في ختام حديثه الرحمة لروح ستراك مجددا التأكيد على أنه ظاهرة فريدة. ستراك كان زمانا من البهجة الخاصة، وجزءا أساسيا من ذاكرتنا السمعية التي تتعرض لأشرس محاولات الإلغاء. إنه مفهوم الحميم والخاص المشترك والذي لم يعد البلد قادرا على تكوين علاقة صحية وطبيعية معه.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى