شعرية النص الأسطوري عند صلاح بوسريف

عز الدين بوركة
تتأسس شعرية دواوين صلاح بوسريف – الأخيرة، أولا وقبل كل شيء، على ما يصطلح عليه بـ«المشروع الشعري» أو «العمل الشعري» أو ما نُسميه أخذا عن رولان بارت بـ«النص»، النص باعتباره تعددا، إذ أن «النص التعددي، لا يعني أنه ينطوي على معان عدة، وإنما يحقق تعدد المعنى ذاته. إنه تعدد لا يؤول إلى أي وحدة. ليس النص توحدا لمعان، وإنما هو مجاز وانتقال». فقصائد الشاعر والناقد صلاح بوسريف هي انزياح وانتقال في المعنى، إذ إنها تتعدد من قراءة إلى أخرى، رجوعا لما ينطبع عليها من اشتغال «قاسٍ» على الصورة الشعرية، إذ يعمد هذا الشاعر إلى ما اصطلح عليه بـ»تَخْمِيرِ القصيدة»، إذ لا يتوقف الأمر عند الكتابة الأولى والتنقيح الأولي، بل يتعداه إلى جعل القصيدة «موضع زمن» أي أنه يتركها إلى أن تتجدد لديه الرؤية ويعود إليها بعد مدة من الزمن لإعادة تمحيصها وكتابتها، ما يجعل منها «نصا متعددا» يحمل في ذاته نصوصا لامتناهية بفعل الاشتغال المتكرر على الصورة داخل النص الشعري.
في عمله الجديد، عن دار فضاءات للنشر، والموسوم بـ«رُفاتُ جلجامش» كعنوان بارز و»كش- بل- كا- مش» «الرجل الذي سينبت شجرة جديدة» كعنوان متحول ومتحرك، يبدو واضحا الاشتغال على الـ»نص الشعري» داخل هذا الديوان الذي جاء من قصيدة واحدة، على امتداد 327 صفحة. صلاح بوسريف الذي سيبرز اسمه سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك بُعَيْدَ الانزياح الطفيف عن القصيدة السبعينية المغربية، التي طغى عليها جمر الرصاص والسياسة والقول المباشر المحمول على كتف الإيديولوجية، إذ كانت القصيدة صوتا للامتداد السياسي آنذاك وصراعاته الفكرية. ستلمع أصوت شعرية شابة، صلاح بوسريف واحد منها، حاولت الانزياح بعيدا بالقصيدة المغربية المعاصرة إلى رؤية مغايرة تحملها نحو تجريب شعري سيمهد إلى ما نسميه اليوم بـ«الحساسية الجديدة».
2
تأتي الأسطورة كدال شعري يسود الديوان كاملا، إذ أن الشاعر صلاح بوسريف اشتغل على «ملحمة جلجامش» الأسطورية عبر «متخيّل شعري»، لا يعمد من خلاله بوسريف إلى إعادة كتابة الملحمة شعرا أو إعادة حكيـها، بل إلى إعادة تركيب خيالٍ شعري عبرها، فصلاح لا يحاول تشكيل صور، بل تغييرها من خلال الخيال، فنحن كما يقول الفيلسوف باشلار «نريد دائما من الخيال أن يكون ملكة لتشكيل الصور، إلا أنه بالأحرى ملكة لتغيير الصور التي يقدمها الإدراك، خاصة ملكة تحريرنا من الصورة الأولى، تغيير الصور. إذا لم يحدث تحول للصور وامتزاج غير متوقع لها، فليس ثمة خيال وبالتالي ليس هناك من فعل متخيل».
بثَّ «جلجامش» الرّوح في جسم «أنكيدو» /حثّه على النهوض من مكمنه /ذاب السّحر كما تذوب السّحبُ /من فرطِ ما يغشاه من الضّوء.
3
إن توظيف الأسطورة في الشعر، أو الرمز الأسطوري (بتعبير أدق)، ارتبط دائما بالرؤية الداخلية للشاعر وما يحاول التعبير عنه وما يروم إلى قوله عبر التوظيف الأسطوري للشخوص والمحكيات والقصص والرموز الأسطورية، التاريخية والدينية وغيرها… وليس من غير المتوقع أن يشتغل صلاح بوسريف على أم الأسطورات التاريخية وأقدمها تدوينا، إذ كان توجه هذا الشاعر ، كما جاء على لسانه، منذ البدء إلى «النصوص الشاقة، والنصوص الصعبة المخيفة، عند المتصوفة العرب وغير العرب، نثرها وشعرها، وإلى النصوص الدينيّة، بلغتها الاستثنائية، ثم من خلال هذه النصوص، إلى النصوص العريقة في بلد ما بين الرافدين، ونصوص الهنود والإيرانيين، والشرق الأدنى عموما».
هل ثمة ما يُفضي إلى حشر الأرض في نزق السماء؟ /ثَقُل عبء الآلهة، فانفطر الشّرّ /لتنازل آلهة آلهة /حيث لا وجودَ، بعدُ، لبشرٍ يحملُ عن صغار الآلهةِ /شقاءهم /الغيب /وشؤون الماء /ومقاليد البحر /والسّحابُ المنتشرُ في أعالي الّريح /هي نهبٌ للآلهة الكبار.
تعددت الأسماء الشعرية المغربية التي اشتغلت على «الرمز الأسطوري» والشخوص والمحكيات الأسطورية داخل نصوصها، فقد صارت الأسطورة أداة من الأدوات الجمالية التي يستعين بها الشعراء الحداثيون في شعرهم، إلا أن الاشتغال عليها يُعتبر -في الغالب – توظيفيا يتغيا الترميز إلى معان خفية أو صور يحاول الشاعر التلميح إليها عبر التوظيف لتلك الرموز، إلا أن التجربة الشعرية داخل ديوان للشاعر صلاح بوسريف، تعتمد على إعادة تركيب الأسطورة داخل قالب شعري على طول الديوان كاملا، أي محاولة للتخييل وليس للتوظيف التلميحي.
4
تعتمد ملحمة جلجامش في نسختيها الآشورية والبابلية، على الحوارية والسرد الخارجي والداخلي للشخصية الأبرز (جلجامش) داخلها، وقد حافظ الشاعر صلاح بوسريف على هذه الثلاثية داخل «تخييله الشعري»
ما إن خلدا إلى النعاس /للخروج من عناءِ السّفر /وعنب الطّريق /حتّى فزّ «جلجامش» من فراشه، /قاصدا «أنكيدو»/ -»يا صديقي /من ذا الذي أيقظني، إن لم تكن أنت؟».
فيَبْـرز بالتالي السرد الشعري الذي يطغى، في الغالب، على الأسطورة، إلا أنه ما يجعل من هذا الديوان /القصيدة، يتمتع بشكله واشتغاله الخاص، إلى جانب التخييل الشعري، هو تلك الإحالات و«الرجْع» (الصوت في قراءة أو أذان أو غناء أو زَمْر) التي يوظفها الشاعر توظيفا يحرص من خلاله على خلق ترابط بين الثلاثية التي يشتغل عليها: النصوص الديــنية السماوية، وملحمة جلجامش ونصــــه الشعري. فقد عمد صلاح بوسريف في اشتغاله على «رفات جلجامش» إلى -الإحالات – النصوص التراثية (أترا-حسيس «ملحمة الطوفان»، اسطورة الخلق…) والدينية (الأناجيل، العهد القديم، القرآن) بالإضافة إلى نصوص شعراء (بابلو نيرودا، تيد هيوز)، وإحالات شعرية للشاعر عينه. مما يعطي هذا النص تعدده القرائي من حيث أن هذه «الهوامش» تلعب دور مرآه النص فيظهر النص عبرها متعددا في مستويات متوازية ومتباعدة وبأحجام مختلفة.
5
لقد ألهمت ملحمة جلجامش عددا من الشعراء العرب وغير العرب، بل إنها ألهمت نصوصا دينية بعينها، إذ أنها تعد المنبع الأسطوري المدون الأقدم. وتتعدد داخل هذه الملحمة المحكيات، من محكيات الحرب والشجاعة والحيوانية والصراع بين قوى الطبيعة والبشر، والحضارة كما الصداقة والحب… هذا التعدد ما يعطيها خاصيتها المميزة لها، كما يجعل منها صعبة التوظيف. حاول الشاعر صلاح بوسريف عبر اشتغاله أن يركّب هذه الملحمة الأسطورية عبر قالب شعري يعتمد على التخييل كمُرتكز أساسي يذهب بها إلى بعد شعري مغاير، معتمدا على السرد الشعري والنثر والإيقاع… ما يجعل من نصه ملحميا يوازي النص الأصلي ويبتعد عنه عبر إعادة تركيبه داخل مُتَخَيَّلٍ شعري اشتغل عليه بوسريف طويلا.
لا تتكلْ على ساعديك وحديهما يا «جلجامش» /تبصر في أمركَ/احم نفسك من نفسك/ «أنكيدو» هو الضوء الّذي به تجسّ نبض خطواتك.
فقد كان لهذا الاشتغال على هذه الملحمة تصور خاص بالشاعر إذن، فهو الذي يرى بالمشــــــروع الشعري، جعل منها محور قصيدته داخل هذا الديـــوان. كما كان لها أثر جلي على شعريته إذ نلمس النفس الأسطوري على امتداد كل الأبيات وليس من خلال التلميح فقط. فيكون بهذا قد أعاد تركيب «رفات جلجامش» شعرا من جديد.
(القدس العربي)