معرض «شخوص» للمصري أحمد عسقلاني: الإنسان الضال وعالم الكائنات الأليفة

محمد عبد الرحيم
كائنات إنسانية تتباين نِسب تفاصيلها الجسمانية خلافاً لما هو متعارف.. أجساد بدينة، أقدام ضخمة، رأس يكاد يختفي. وتحاول أن تبدو واثقة من نفسها وأفعالها، بل يصل بها الحد إلى درجة كبيرة من التباهي بما تفعل. وعلى النقيض تأتي مجسمات لحيوانات تألفها البيئة المصرية تماماً، كالقطة والحمار وفرس النهر ــ السيد قشطة كما يُطلق عليه في العامية المصرية ــ وما بين أفعال تبدو اغترابية وتوحي بالعزلة، أو تتحايل هذه الأجساد لتستريح لحظات، سواء في جلسة استرخاء، أو تتنفس في قُبلة مُختلَسة، ومقارنتها بحيوانات أليفة تتشابه والفعل الإنساني (تتأنسن) كمعنى، دونما افتعال أو تباهٍ منقوص. هذه المقارنة هي الحالة العامة التي يوحي بها معرض المَثّال أحمد عسقلاني، الذي عنونه بـ»شخوص»، ليضم عدة أعمال من البرونز، والذي أقيم مؤخراً في غاليري مصر في القاهرة.
الاغتراب والاحتفاء الزائف بالحياة
تبدو منحوتات عسقلاني، خاصة في حالة الشخوص الكاشفة للحالة الإنسانية، في حالة من التوتر، حتى المنحوتات التي توحي بحالات الاسترخاء، أو محاولة التواصل مع الذات، أقدام ضخمة، ورأس مختف، العقل هنا في حالة غياب تام، وحتى في التواصل مع الآخر، صداقة أو علاقة حب، يبدو هذا العقل في غيابه، وكأنه لا يستطيع إنتاج صيغة للحياة يمكن احتمالها، وصولاً إلى عمل يمثل شخصا يقوم بخنق نفسه. وآخر لا يتورع عن أن يتبوّل وكأنه على قارعة الطريق.
ورغم الحِس الساخر في هذه المنحوتات، إلا أنها تعكس حالة يعيشها أغلب المصريين، فرغم مظاهر الاحتفاء بالحياة، كالجسد الملتحم بين الرجل والمرأة وطفلهما، يبدو آخر لا يجد مجالاً للصداقة سوى مع طائر يقف فوق كتفه.
الجسد ودلالته
تبدو المنحوتات العارية للجسد الإنساني وكأنها في حالة من الخفاء، ليصبح المتلقي بدوره في حال المتلصص، وهنا تنقلب الآية، ليحل المتلقي محل الجسد الذي أمامه، ويكتشف أفعاله في ظل هذا الجسد وحالته. فالقُبلة بين الرجل والمرأة لا توحي إلا بأنهما في حالة من التخفي، في ظل مجتمع أصبح لا يسمح بفعلة كهذه، لكنه في الخفاء يحتفي ولا يفكر ــ لاحظ العقل الغائب دوماً ــ إلا في هذه الحالات والانشغالات. الأمر الآخر الذي توحي به حالة ضخامة نِسب الجسد، هو افتعال البطولة والثقل الواهي والموهوم في نهاية الأمر. فهم أتفه وأضل روحاً، ولا يكون التعويض عن الوجود هنا إلا بهذا الجسد الضخم، ومحاولات التواجد الوهمي. هذه المثالية المزعومة لا تجد لها مكاناً بين هذه الكائنات.
أنسنة عالم الحيوان
وعلى النقيض من حال المنحوتات الإنسانية، تأتي منحوتات الحيوانات، وتصبح هي التي تمثل الحال الإنساني في صورة رفيعة.. كالقط والحمار وفرس النهر، الذي يصبح أكثر ألفة وهو يلعب مع أطفاله، أو أن يبدو التكوين الجسدي للحمار في حالة جمالية لم ترتق إليها أي شخصية أخرى تم تجسيدها في المعرض. ومع ما تحمله هذه الكائنات من دلالة رمزية في الموروث الشعبي المصري، كامتداد لتاريخ قديم، القط وفرس النهر، الذي كان يمثل أحد الآلهة في مصر القديمة، وصولاً لمثال الصبر والذكاء المتمثل في مخلوق مثل الحمار، الذي اعتاد الناس اعتبار اسمه سُبّة في ما بينهم. هنا تبدو المقارنة بالغة الدلالة ما بين عالم هؤلاء وعالم الإنسان، عديم الاكتمال في تكوينه وبالأخص روحه.
حالة البهجة
ورغم الحالة القاتمة للتكوينات وأفعالها، إلا أن طريقة أسلوب التنفيذ وإظهار الفكرة، توحي بحالة من البهجة، وهي المفارقة التي تُحسب للفنان. فلم تتجسد الكائنات إلا في أفعال وحالات تدعو للدهشة، دون الغنائية التي تضرب الكثير من الأعمال التي تنتهج هذه الأفكار. وما حالات التعاطف التي تتحقق إلا من خلال الحيوانات وعالمها، وعلاقتها خاصة مجموعة أفراس النهر، إضافة إلى حالة التآلف والتناغم التي يصر الفنان على إيصالها من خلال منحوتاته، فما بين استرخاء رجل واسترخاء قِط فارق كبير، وما بين عائلة إنسانية وأخرى من أفراس النهر فارق أكبر. وعلى المتلقي دوماً أن يتفاعل مع ما يراه، ويحاول إعادة التفكير في ما يفعله وينتهجه من سلوك يُسمى مجازاً إنسانياً.
(القدس العربي)