بيتهوفن وسيمفونية الحياة… فلسفة التغيير

مدى الفاتح

ربما تعيننا قراءة سيرة الموسيقي الألماني الأشهر لودفيج فان بيتهوفن على فهم التحولات التي مرت بالمجتمع الأوروبي وهزت قاعدته، وصولاً لما تم الآن الاستقرار عليه من معانٍ وانشغالات.
عاصر بيتهوفن (1770 -1827) فترة المخاض الاجتماعي التي لم تكن قد آتت أكلها بعد والتي أدت في نهايتها لدخول أوروبا عصر الحداثة والتنوير.
عاش بيتهوفن في زمن احتدام الطبقية، حيث لم يكن الناس سواسية، وإنما طبقات يكون بعضها نبيلاً وبعضها حقيراً بحكم النشأة والميلاد، وقد عانى من ذلك أشد المعاناة، حيث كانت له تجارب مريرة لم يستطع محوها من ذاكرته حتى آخر أيام حياته. من تلك التجارب اكتشافه، حين أراد أخذ الوصاية على ابن أخيه، أن المحاكم نفسها مقسّمة بحسب الطبقة، وأن القانون كذلك نسبي، بل إن كل شيء خاضع للوضع الاجتماعي ومزاج المتنفذين. إلا أن هذا لم يكن الاحتكاك الوحيد بالظلم الاجتماعي، فقد كان عمله بالموسيقى يوفر له احتكاكاً مباشراً وشبه يومي بالطبقة النبيلة، التي كانت تحب أن يستمع أبناؤها للموسيقى وأن يتعلموا فنونها باعتبارها مظهراً من مظاهر الحياة البورجوازية.
العازف القادم من طبقة أدنى سوف يقع أكثر من مرة في غرام آنسات أرستوقراطيات، ورغم أن التاريخ يخبرنا أن بعضهن بادلنه الحب ذاته إلا أن المجتمع الصارم آنذاك في هذه المسألة لم يكن ليسمح لمثل هذه العلاقات باكتساب الاعتراف والشرعية.
بالنسبة لشخصية مرهفة الحس كبيتهوفن، كان ذلك أمراً مخيباً للأمل ودافعاً للنقمة، لا على الأسر النبيلة والأرستوقراطية فقط، بل على مجمل النظام القائم المبني على اللامساواة والظلم. هذا السبب هو الذي جعل بيتهوفن يُعدّ من مؤيدي الثورة الفرنسية ومبادئها المعلنة، القائمة على الحرية والإخاء والمساواة، كما جعله يظهر إعجاباً كبيراً بالقائد العسكري نابليون بونابرت.
الحديث عن الإعجاب بالثورة الفرنسية مهم، فعلى عكس ما نتصور لم تكن تلك الثورة محل اتفاق بين عموم الناس، فقد كانت مصالح الكثيرين قد ارتبطت بشكل أو بآخر بالنظام القديم. كما أنه من المهم كذلك التذكير بأن الثورة الفرنسية مرت بموجات مختلفة، وحملت الكثير من الأخطاء والتناقضات التي استغلها خصومها في نقدها ونقد التغيير الذي حاولت صنعه. بالنسبة لبيتهوفن فإن إعجابه بنابليون لم يكن مطلقاً، فقد كان معجباً في البداية بنابليون الذي قدم من وسط اجتماعي متواضع حاملاً مشعل تغيير وممثلاً لثورة تستهدف إقامة عدل اجتماعي، إلا أنه سرعان ما عبّر عن صدمته فيه حينما تحول من قائد شعبي إلى حاكم، خاصة حين نصّب نفسه امبراطوراً وحينها قال قولته الشهيرة: «إذن لا فرق بينه وبين غيره. هو باحث عن أطماع شخصية». كما تروي المصادر كيف أنه ألغى الإهداء الذي كان قد كتبه لنابليون بعد فراغه من سيمفونيته الثالثة، معتبراً أنه لم يعد يستحق، حيث اكتفى بتسميتها: في ذكرى رجل عظيم.
إن الكثيرين يختزلون مأساة بيتهوفن في إصابته بالصمم في آخر عمره، وهو بالتأكيد أمر صعب أن يفقد من كرّس حياته للموسيقى ّقدرته على الاستماع لها أو حتى الاستماع لما ينتج من ألحان. إلا أن بيتهوفن قد تجاوز هذه المحنة مستمراً في إنتاج المزيد من الأعمال ومتحدياً مرضه، بل إنه كان على مر سنوات يتعامل مع مشكلته السمعية وطنين أذنيه كسر خاص لم يفشه لأحد، إلا بعد أن فاق الأمر طوق الاحتمال، فكأنه في هذا كان يرفض الانصياع لواقع حالته. لم يكن إنتاجه قليلاً حتى وهو يعاني من الصمم الكامل وإن كان دارسو الموسيقى يعتبرون أن ألحانه في هذه المرحلة كانت أضعف بشكل كبير من تلك التي أنجزها في بداية حياته، أو قبل أن يفقد القدرة على السمع.
إلا أن مأساة بيتهوفن كانت أكبر من مجرد الإعاقة السمعية، فقد كان من ناحية يعيش ظروفاً أسرية معقدة، كما كان من ناحية أخرى ناقماً على النظام المجتمعي الذي يحكم على بعض الناس بأن يكونوا ضمن الطبقة الأدنى أو الأعلى، بحكم أسمائهم وانتماءاتهم العائلية، وبغض النظر عن إنتاجهم ومواهبهم وما يمكنهم تقديمه لذلك المجتمع. كانت شخصية بيتهوفن مثاراً للجدل السياسي والفلسفي حتى بعد وفاته، فليس من قبيل المصادفة أن يروى المشهد الأخير من مشاهد حياته على النحو الذي يصوره رافعاً قبضته تجاه السماء وباصقاً بصقة ضعيفة سرعان ما ستسيل على ذقنه. هذا المشهد، ورغم أنه من الصعوبة التحقق من حقيقته وواقعيته، سوف يتم التركيز عليه في بعض الأدبيات لإيضاح عداء بيتهوفن للإله وكفره به وسوف يتم توظيفه خلال الحقبة التي شهدت المد الأعظم لرفض الأديان للتدليل على أن رمزاً كبيراً من رموز الثقافة الأوروبية كان ملحداً.
وبدون الإسراف في الدفاع عن إيمان بيتهوفن بوجود إله، كما يفعل بعض الدارسين الذين يدللون على إيمانه بألحانه الدينية أو المستمدة من روح الأدب المسيحي، يمكن القول بموضوعية إنه قد كانت لبيتهوفن مشكلة فعلاً مع المؤسسة الكنسية التي كان يكن لها بغضاً كبيراً، باعتبارها شريكاً أساسياً في الظلم الاجتماعي الذي تعرض وغيره إليه. هذا الاحساس بالبغض لم يكن شيئاً خاصاً ببيتهوفن، بل كان من المشتركات الرئيسة بين الكتاب والفنانين والمثقفين الأوروبيين المتحدّرين من عامة الشعب. كان ذلك مبرراً فقد عملــــت الكنيسة بالفعل لعقود على شرعنة النظام الطبقي القائم ومنح السلطة المطلقة للنخب السياسية والاقتصادية للتحكم في رعاياهم نظير «إتاوات» متبادلة.
يمكن القول إن رفض بيتهوفن للكنيسة لم يكن يعني أبداً أنه كان أقل إيماناً من رجال الدين الذين كانوا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا،ً ويستغلون مكانتهم والتقدير الذي يحظون بهم لدى عامة الناس من أجل إفقارهم واستغلالهم وإقناعهم بأن هذا هو قدرهم الذي يتحتم عليهم الصبر عليه، إن أرادوا الخلاص الأبدي الموعود.
حياة بيتهوفن كانت هي نفسها أقرب للسيمفونية التي يمكن أن يفسرها المستمعون كل حسب وجهة نظره وصداها في نفسه. يظهر ذلك في التباين والقراءات المختلفة التي نجدها عند ساردي حياته، ففي حين يركز البعض على الجانب العاطفي وصورة العشق المستحيل، يركز آخرون على الجانب الموسيقي والتجديد في مجال التنويعات الموسيقية.
بالنسبة إليّ فإن أهمية بيتهوفن تكمن، بخلاف جانب الموسيقى، في سعيه لتوفير الكرامة للمبدعين الذي كان يتعامل معهم المجتمع بازدواجية، فهو من ناحية يحب فنهم وإبداعهم، ومن ناحية أخرى لا يريد الاعتراف باستحقاقهم معاملة أفضل ومساواتهم بغيرهم من النبلاء، أو حتى أن يكفل لهم حياة كريمة نظير ما يقدمون من أدب أو فن. ويكفي أن نعلم أن هذا التحقير كان بالفعل من نصيب أسماء تعتبر اليوم من رموز الموسيقى الكلاسيكية كأستاذه هايدن ومن قبله موزارت الذي كان السادة لا يرون غضاضة في جعله يتناول الطعام مع خدم القصور.
لقد نجح بيتهوفن في صنع تغييره بنفسه كما استطاع أن يفرض على الملوك والأمراء التعامل معه باحترام، فمن مواقفه الشهيرة على سبيل المثال رفضه القبول بالبروتوكول الذي كان سائداً آنذاك، وهو أن يعزف الموسيقيون من خلف الكواليس، في حين يستمتع علية القوم بموسيقى لا يعرفون صاحبها أو مصدرها. الحقيقة هو أنه قد نجح في صنع بعض التغيير على مستوى تجربته الشخصية، لكن حياته التي انتهت في مثل هذه الأيام من عام 1827 لم تكن لتمتد حتى يرى حلمه الذي بدا حتى ذلك الوقت بعيد المنال وهو تحقق فكرة المجتمع اللاطبقي في بلاده، بل في عموم الأراضي الأوروبية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى