القاص أنيس الرافعي: صدمة القصة القصيرة

حسن سرحان

أنيس الرافعي قاصٌ شكلاني بالمقام الأول، أعني انه يكتب القصةَ القصيرة بنيَّة خوضِ مغامرة البحث عن رؤى جمالية لم تُستنفد بعد، يريد منها أن تكون قادرة، في كل مرة، على استيعاب الحكاية وتقديمها بشكل مختلف.
يكمن في هذا الرهان على استجابة القصة القصيرة الهائلة للتجريب غير المحدود كلُّ المشروع الفني للكاتب أنيس الرافعي. حتى في نصوصه التي تبدو، ظاهراً، غير معنية كثيراً باقتراح نمط جديد للقص (كما هو الحال في مجموعته «الشركة المغربية لنقل الأموات»، مثلاً) يحضر، ولو بشكل غير مباشر، هذا الميل من قبل المؤلف لاختبار قابلية النص القصصي على استقبال التجريب والتفاعل معه. في «الشركة المغربية لنقل الأموات»، التي نسب إليها بعض النقاد عناية عالية بالمضمون وحمّلوها إشارات أيديولوجية تنطوي على مبالغات، ينقل القاص اهتمامه إلى منطقة التراث الشعبي ويوظفه فنياً مستفيداً من إمكانيات التخيل المدهشة التي يشتمل عليها مخيال العامة، جاعلاً منها سنداً مؤثراً في صياغة شكل النص. أنْ تكون القصةُ ميدانَ بحثٍ عن الأشكال قبل أن تطرح نفسها دالّةً تنتج معاني فورية تتصل اتصالاً مباشراً بالواقع، لا يعني دليلاً يستقى منه البرهان على احتقار الرافعي للحكاية من حيث الأصل.
في نهاية الأمر، لا تحيد كتابات القاص المذكور في مجملها عن التشكل داخل أطر البنيات السردية الصغرى، التي يتكون منها العنصر الحكائي وإن كانت قصصه لا تضع في صدر حساباتها سرد حكاية تستميل القارئ بحبكتها ونوع المغامرة التي تخوضها شخصيتها الرئيسة. إن هذا الاهتمام الذي يمنحه أنيس الرافعي للشكل لا يشير، بالضرورة، إلى يأس القاص من قدرة الحكاية على ابتكار ثيمات جديدة تعبر عنها وتتجسد فيها. يحمل هذا التنقيب والحفر الذي يدور في معظمه حول النظم الشكلية مؤشراً قوياً على أن مزاج أنيس الرافعي الفني ميّال، بالأساس، إلى جعل الحكي خاضعاً للشكل وتابعاً له ومنبثقاً عنه ومنقاداً إليه. من هذه الناحية، يفترق صاحب «متحف العاهات» عن مجمل قاصّي جيله، وعن كثير ممن سبقوه من الذين ما زالت كتاباتهم تُعلي من شأن الحدوتة، وتتخذ من الشخصية مركزاً أثيراً لبناء الحدث، ومنطلقاً رئيساً نحو ما يرونه من حتمية أنسَنَةِ النص القصصي.
بطبيعة الحال، الغاية من هذه الأنسنة معروفة ومكشوفة إذ أنها لا تستهدف غير إعادة تمثيل العالم الخارجي وجعل القصة أو الرواية امتداداً طبيعياً له أو، في أدنى الاحتمالات طموحاً، تقديم النص السردي على أنه شكل ممكن من أشكال الوجود البشري ومعادل له. تشتمل هذه المحاولة، أعني محاكاة الواقع والإصرار على مجاراته بأي ثمن كان، على فهم سطحي جداً لمعنى الواقعية كما تعبر عن تبسيط ساذج لغاية الفن السردي قصةً كان أو رواية. يُسأل عن هذا التسطيح والتبسيط للمفاهيم التفكيرُ النقدي قدر ما يُسأل عنهما الإبداع السردي، سواءً بسواء. ليس الواقع تصوراً ذهنياً نهائياً وثابتاً إلى الحد الذي يقبل معه دوماً الانتقال، بيسر، من الحالة المتصوَّرة إلى الحالة الملموسة، بمجرد سرد حكاية خبَرية ممكنة التصديق. باستطاعة النص القصصي والسردي عموماً أن يبرهن على وجوده ويحدِثَ نفسه ضمن سياق قواعده الجمالية الداخلية وبُناه المعرفية الخاصة به والناشئة عنه، بعيداً عن كل حاكمية تاريخية، سياقية يفرضها الخارج (أعني بالخارج كل سلطة تتجاوز نطاق العلامة اللغوية التي تتحدد بحدود النص وتنتهي عنده). واقعية النص القصصي تُستمَد، بشكل كبير، من طبيعة حركة السرد التي هي ديناميكية ومتلاحقة ومتغيرة ومتفاوتة هبوطاً وارتفاعاً وغير خاضعة لمؤثر غريب عن مكونات خطابها العلاماتي.
بعبارة أخرى، ليس واجباً على النص السردي الإبداعي أن يكون له مرجع خارجي دال يتحتم عليه مسايرته ومتابعته والخضوع لقوانينه باستمرار كي يثبت إخلاصه للواقع البرّاني وانتماءه إليه. هذا الأخير ذو ضوابط مختلفة عن تلك التي للنص القصصي ومظاهر وجودية (بالمعنى السارتري لهذه الكلمة) لا تتلاءم دوماً مع طبيعة النص التخييلي. قد يكون «الواقع» بصفته فكرةً حداثويةً، واحداً من أكثر مفاهيم نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لبْساً وإثارة للجدل، وتبايناً في المعنى وضبابية في الأطر وانفتاحاً في الحدود وسرعةً في التغير والتحول والتبدل.
ضمن هذا الاستيعاب لمؤدّى فكرة «الواقع»، يخلق أنيس الرافعي واقع نصه القصصي الخاص به، حيث يتداخل العجائبي مع اليومي والمعقول والممكن مع غير القابل للتحقق والمستبعد الحدوث وفق قوانين خارج النص. في هذه الناحية بالذات، تجسّر نصوص أنيس الرافعي القصصية لعلاقة جنيسية واضحة (أعني بالجنسز البذرات الأولى لنشوء النص كحكاية) مع الكثير من كتابات القاص العراقي لؤي حمزة عباس. كلا القاصين يعملان بانتظام ودأب على سرد حكايات يتداخل فيها الواقعي مع العجائبي بطريقة تظهر وعيهما العالي بالضوابط التي اشترط تودوروف توفرها في حد العجائبي كي لا يختلط مع الغرائبي. خاصية هذين القاصين الكبيرة تكمن في أنهما يعرفان كيف يصنعان (جوّهما) النصي الخاص بهما، وكيف يديمان زخم ذلك (الجو) بمخلوقات وحكايات يحتار القارئ بشأن صدقية وجودها، فلا هو القادر على إنكارها ولا هو المتيقن من حقيقة حضورها. لا يعني هذا أن لؤي حمزة عباس وأنيس الرافعي يكتبان قصصاً خارج الزمن، بل يعني أن قصة كل واحد منهما تخترع لنفسها طرقها الخاصة في إدراك «زمنها» وتعي، وفق قوانينها الذاتية الداخلية، تغيرَّ اللحظة المعيش.
أعود إلى تجربة أنيس الرافعي القصصية فالكلام عنه وعن مشتركاته الفنية مع القاص لؤي حمزة عباس يتطلب مقاماً أوسع من هذا. أميل، فنيا، إلى تجربة القاص أنيس الرافعي لأنها مشبعة بروح التمرد على الثبات وتنكر الاستقرار ولا تعترف بغير الحركة والتبدل وإعادة التشكل نظاماً لها. هذه الأبعاد الأخيرة هي التي تجعل من الصعب اختزال ملامح كتابات أنيس الرافعي في ميسم ثابت، وهي التي تتيح لهذه الكتابات، من زاوية نظر استقبالية، الاستجابة للإضافة والإنقاص والتركيب والتفكيك. أجد في «مصحة الدمى» التي هي آخر مجموعة قصصية نشرها الرافعي نموذجاً خلاّقاً لما يمكن أن تكون عليه القصة العربية التجريبية. في هذه النصوص تكامل فني كبير وتجاوز لنمط السرد القصصي المعتاد ولعناصره البنيوية الثابتة. الصفة العامة المشتركة لهذه المجموعة القصصية تتمثل في أن كل نص منها ينتج نصوصاً أخرى على هامشه، ناسفاً بهذا الفعل الجمالي النادر الوحدة والاستقرار اللذين عادت إليهما كتابات قصاصين كثيرين في مشرق الوطن ومغربه على وجه التغليب، بطبيعة الحال، لا على وجه الاختصاص. تشكل هذه النصوص الهامشية، التي لم يعرها الدارسون لـ»مصحة الدمى» العناية اللازمة بسبب انشغالهم بالإحالات النفسية والخلفيات الاجتماعية للمجموعة، تفرعات حكائية جديدة تمتلك القدرة الذاتية على إنشاء مستوياتها الداخلية النظمية الخاصة بها، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن كل نص هامشي هو عالم قائم بذاته. تؤمِّن تلك الحكايات التي تتوالد على ضفاف الحكاية الأولى، بتنويعاتها وتفصيلاتها، للنص القصصي الذي ينتجه أنيس الرافعي، الاختلافَ في الشكل والبنية عن السائد من الكتابات القصصية. إن التجديد في الخطاب القصصي لأنيس الرافعي يرتكز بشكل تام على الوعي الفني الكبير الذي يتمتع به هذا الكاتب، لاسيما في ما يتعلق بتطور المفاهيم السردية وتأثيرها في صياغة النص وتوجيه خطابه الجمالي. في «مصحة الدمى» كما في غيرها، نصوص أنيس الرافعي القصصية صادمة على مستوى الشكل، مغايرة على نطاق الحكاية، خلافية ومشاكسة من ناحية بناها الفنية الداخلية.
تكشف القصة القصيرة التي يتبناها أنيس الرافعي حساسيةً استثنائية تجاه التجريب، تتجاوز بكثير مرحلة سرديات ما بعد الحداثة لتفتح أفقاً واسعاً نحو اختراع جماليات جديدة للكتابة القصصية، أساسها التمرد على الحدود ورفض التقسيمات والتصنيفات مهما كان نوعها. قد يجد كهنة السرد الكلاسيكيون في نصوص القاص أنيس الرافعي تخريباً للقصة التي ألفوها وعوّدوا قرّاءهم عليها، وقد يرى بعضهم في تجربة القاص المغربي هتكاً لقداسة طقوس الكتابة القصصية، لكني ألمس فيها اقتحاما شجاعاً للحساسية السردية التقليدية ومحاولة فنية مقتدرة لتحطيم قوانين وبنى القصة القصيرة المستقرة والمتعارف عليها منذ زمن ليس بالقصير. أنيس الرافعي يكتب نصوصاً قد لا تلبي شروط الذائقة السردية الموروثة لكنها تحمل، على المستوى البنائي، مشروعاً جمالياً كبيراً يستدعي التفكير ويستحق التأمل ويوجِب الدرس. منذ المغامرة الكبرى للقاص العراقي محمد خضير، لم تعرف القصة القصيرة العربية صدمةً فنية قوية متواصلة ودؤوبة وصبورة كتلك التي عرّضها لها، وما يزال، الكاتب أنيس الرافعي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى