الحاجة إلى البحر في عالم متوحش في ديوان “قصائد الحرب والحبّ” للشاعر المغربي يوسف علمي

خاص (الجسرة)
أمين دراوشة
أختار الشاعر في باكورة أعماله الشعرية أن يصور الواقع، لذا انحاز إلى الشعب، وإلى فلسطين التي تبقى بمنزلة القلب في أي أدب ملتزم في كل البلاد العربية، ولأنه يمتلك مشاعرا تضطرب لتخرج كنبع الماء المتدفق فأنه عنّون ديوانه ليعبر عن حالة الصراع في عالمنا،غير أن الشاعر يرفض الحديث عن هزيمة الحلم العربي، وهو يؤمن أن النهاية ستكون للحب، حيث سيبني أعشاشه في قلوبنا.
في قصيدة المحرقة يتناول فيها قضية الظلم والاستبداد، ويقول للطاغية أفعل ما بدا لك، أقتل دمر وأحرق
“أوقد بنا نارك المقيتة كلها
لا تُبقي مناّ نبضاً
و لا طفلاً
إياك أن تذرْ!”. (يوسف علمي. قصائد الحرب والحبّ. الرباط: منشورات عبد الصمد محي الدين. ط1. 2016. ص 9-10)
ففي النهاية ستركع ذليلا فموت البسطاء من الناس نوعا من الخلود، يهب الآخرين القدرة على الحياة والمقاومة:
“هبنا صاغرا
اكسير الخلودْ
و انحتنا ضميرا للوجودْ
سنبقى كوابيسك للابدْ
بذور طلع
يحييها الريح
و المطرْ..”. (ص9) فموتهم سيكون وبالا عليك، وسيفجر نومك، ولن يجعلك تنتصر أو تهنأ، هؤلاء المظلومين القتلى سيكونون البذرة التي ستنمو لتزحزك عن كرسيك الدموي، فكل أفعالك الشريرة:
“فجِّرْ طوفان الدماء
أنفث حقدك الدفين
رصاصا مصبوبا و شررْ”. (ص10)
لن تقف في وجه أحلام الشعب في أن يملك السماء والحرية، يقول:
“نزرع بها الكواكب
و نعلق النجوم و الصورْ”. (ص 11)
فقد اقترب الوقت لتكتب في صفحتك الأخيرة موتك، وصعود الشعب:
“نحن شتاتك
نحن لعنة الالهة
نحن القدَرْ”. (ص 11)
ويتطرق الشاعر إلى الأوضاع السيئة في وطنه، أنه وطن الصراع الطبقي حيث ينتصر الفاسدين على الفقراء، وفي قصيدته “الشائع”: يقول:
” وماخورٌ للغزاةِ
و للفاسدين حليمٌ، غفورٌ
شافِعْ..
أرضٌ مشاعْ
سيبةً للناهبين
و للضباعْ”. (ص 35)
وهو لا يستكين ويبقي يصرخ بصوته العالي:
“أعيدوا لأطفالنا وطن الأجداد الرائعْ”. (ص 35)
إن الفاسدين الذي يستولون على حقوق الفقراء، ليصرفوها على متعهم، آن لهم أن يرتدعوا، ليكون الوطن للناس جميعا يحيوا فيه بكرامة.
يكتب علمي بتلقائية، وتنهمر عواطفه دون محاولة لوقفها، فهو بعيد عن الصنعة والتكلف، أنه شاعر طبع، والطبع هو “ما لم يقع فيه تكلف، وكان لفظه عاميا لا فضل فيه عن معناه، حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل ولا أخصر من ذلك اللفظ”. (عبد المالك الشامي. النقد الأدبي في الأندلس. فاس: منشورات المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات. كلية الآداب والعلوم الإنسانية. ط1. 2016. ص 381)
فألفاظ الشاعر سهلة وقريبة من المتلقي، ولا تجد معناها عميقة وغامضة.
وعرّف حازم القرطاجني الشعر من خلال أغراضه، فهو يعتبر الشعر ناتج عن أمورا حدثت مع الشاعر، فاستجاب للعديد من المؤثرات والعواطف المختلفة، فيعبر عما يجيش به صدره حسب المؤثر إذا كن مريحا أو مزعجا، يقول: “والارتياح للأمر السار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أرضى فحرك إلى المدح، والارتماض للأمر الضار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أغضب فحرك إلى الذم. وتحرك الأمور غير المقصود أيضا من جهة ما تناسب النفس وتسرها، ومن جهة ما تنافرها وتضرها إلى نزاع إليها أو نزوع عنها وحمد وذم أيضا، وإذا كان الارتياح لسار مستقبل فهو رجاء…”. (المرجع السابق. ص 188)
وهذا ما ينطبق على شاعرنا. ففي لحظة غضب على الواقع البائس، ونتيجة لظروف قاهرة وصعبة مرّ بها الشاعر نراه يعلن أنه سيغادر الوطن إلى غير لارجعة، يقول في قصيدة “مذكرات مهاجر”:
“قررت أن أرحل..
عن وطن الأحلام الصغيرة.. “. (ص125-126)
فهو في وطنه الجميل الذي يراها وقد اتشح بالسواد عاجز عن تحقيق أمانيه البسيطة، فيحاول تحقيقها في الغربة:
“قررت أن أرحل
عن وطن يحبني قنوعا
صبورا..
أجيد الهتاف و الركوعا
و ينصحني.. ان ضاقت بي الدنى
أن أعتصر آلامي تناهيدا و دموعا”. (ص126-127)
فالوطن لم يعد فيه مكان للناس البسيطة بعد أن شرعت الغيلان بالتهامه، ففي الماضي تعلمنا الكثير عن الحرية، ولكن البشر تغيروا، وأصبح الوطن يريد منا السكوت على الظلم، والعيش بما تيسر من قوت:
“وطن علمنا المجد صغارا
و صور لنا اليأس عارا
و يريد منا الآن الخنوعا”. (ص126)
ويصور الشاعر ألمه على فراق الوطن وأحبائه، والوجع الذي يأكله لقراره بالرحيل:
“ودعت وطن الأحلام الصغيرة..
بحضن أعتصرت أخي فيه
و دمعة حرى لأختي أميرة..
و قبلة لثمت كف والدي
ادعوا الآهي ان لا تكون الأخيرة
و وشاح لأمي..
بللته عبرات.. و دعوات
بالهداية و نور البصيرة…”. (ص127)
ولكنه يقاوم شوقه للأحبه، ويحاول أن يسعى وراء أحلامه فيما وراء الحدود:
قررت الرحيل
أن اركب المجهول..
أن اقصي عني شوق الأهل
و نداءات الأفول”. (ص128)
ويحاول بما يملك من طاقة تحمل الصعاب بالحب، إلا أنه لا يسعفه، وكأنه فقد الثقة بكل ما يتعلق بالوطن، فيعلن موت الحب، يقول في قصيدة “أرقد بسلام أيها الحب”:
“فلترقد بسلام أيها الحبْ
طويلاً.. منسياً
كالقلبْ
متحلِّلاً متفتِّتا
مهجوراً.. كأطلالٓ حربْ
ارقد بسلامْ أيها الحبْ”. (ص89)
فالناس لم تعد كالسابق، وأصبحت تجري صوب مصالحها دون اعتبار للقيم الإنسانية.
وسيجد في غربته أن الوطن لا يمكن نسيانه، وهنا وسط القلب لا يمكن خلعه، لذا يصبح موقنا أنه لا مفر من العيش بالوطن على علاته، وأن محاولة التغيير تتم من داخله لا خارجه:
“مؤمنا أني حتما سأعود
و أن الغياب أبدا لن يطول
فحب الأرض فيّ لن يموت”. (ص128)
يقيم الشاعر تقابلا بين عالمين المثالي والواقعي، و”على الرغم مما يوحي به من صور الحنين إلى الماضي والبساطة والهروب إلى عالم البراءة في وطن مثالي فإنه يبدو متشككا في ذلك، وهو لا يتجنب الواقع ولا يتفادى تفصيلاته…إنه يقيم مقابلة بين عالم البراءة وعالم الفساد في الواقع”. (إبراهيم السعافين. لهب التحولات. دراسات في الشعر العربي الحديث. دبي: منشورات دار العالم العربي للنشر والتوزيع. ط1. 2007. ص 291)
إن شعر يوسف ليس تصويرا ساذجا لحياة وادعة ونقية، بل هو متخم بالقلق بل بكوارث الواقع الذي يدمر كل شيء حتى الناس الطيبين، ورغم كل الشرور في العالم، يبقى الشاعر يملك طاقة حب متوهجة تعينه على مصاعب الأيام، وإرادة حديدية ستنتصر في النهاية، فالحق لا يزول.
يعود الشاعر كلما أحس بالحزن إلى المحيط الأزرق، ولا يخفى أن الماء يمثل العودة إلى البداية، والولادة من جديد، إذا هناك الذكريات العذبة، يقول في قصيدته الأخيرة “الأطلسي”:
“حين يختلط الصوت بالرائحة
و تزأر أصداء رقصات الموج
و ينزاح شفق الاشراقات الزائفة
هناك و من بعيد..
يلوح البحر
عشقي الأزرق
عشقي الأبدي لزرقة العشق
هناك و من بعيد..
تنتابني رغبة صدفية
في الإبحار نحو شواطئ الذكرى
و في الانسلاخ من جلد الكآبة”. (ص 129-130)
يهرب من همه الذاتي الذي يتماهى مع الهم العام إلى البحر، يرتمي في أحضانه، يشعر بالحرية، والهواء النّقي
الشاعر في ديوانه الأول، ما زال يكتب بمشاعره المتدفقة، وعليه في أعماله المقبلة أن لا يكتفي بذلك، بل يأخذ برأي اليوت في هندسة قصائده بعد أن يكون فرغ من الشحنة العاطفية، وطرد ما علق بها من زوائد لأن الشعر لا يحتمل الشوائب.