الرمز المستتر في ‘الماء والخضرة والوجه الحسن’

أمير العمري

يمكن القول بدايةً إن في فيلم “الماء والخضرة والوجه الحسن” للمخرج يسري نصرالله، الكثير من ملامح الأفلام الهندية الرائجة، سواء في رسم الحبكة والمفارقات أو في طبيعة الفيلم ذي الألوان الصريحة الحارة بمذاق الطعام الهندي المعروف، وبما يتضمنه من مشاهد الرقص والغناء الجماعي والفردي، والمداعبات الحسية التي لا تكتمل، والعنف الذي ينتج عن الطمع والجشع، والنهايات السعيدة رغم كل ما وقع.

هذه “الخلطة” الهندية التقليدية المثيرة أراد من خلالها يسري نصرالله، مستندا إلى فكرة للممثل القريب إليه باسم سمرة، أن يقدم عملا سينمائيا يدور على مستويين: مستوى الواقع الشعبي، ومستوى الرمز السياسي على نحو ربما كان يذكرنا بما قدمه أستاذه يوسف شاهين في “عودة الابن الضال” مثلا، ولكن مع تضاؤل البعد السياسي كثيرا، وسذاجة المستوى الثاني وتشتته.
غياب الأسلوب

لعل من ضمن المشاكل الرئيسية التي يعاني منها الفيلم تأرجحه بين أساليب عدة: الميلودراما والكوميديا والفيلم العاطفي الرومانسي والفيلم الموسيقي الراقص، وبالتالي غياب وحدة الأسلوب، والتأرجح أيضا بين الرغبة في جمع أكبر عدد من الممثلين في مكان واحد لا يغادرونه سوى نادرا، قرية صغيرة في محيط مدينة بلقاس أو إحدى حاراتها، وبين اللعب على فكرة الاحتفال بالحياة وتحقيق الزهو والفرح من خلال التركيز على فن طهي الطعام.

من هنا يمكن اعتبار الفيلم أحد الأفلام النادرة في السينما المصرية التي يبرز فيها دور “الطهي”، أي أنه يندرج أيضا في إطار أفلام الطهي Culinary movies، ففي الكثير من مشاهده نرى كميات هائلة من الأطعمة والمأكولات، من أول عملية إعدادها وطهيها ثم تقديمها، خاصة اللحوم التي يتم تقطيعها وإعدادها وشيها أمامنا بالتفصيل، وربما يكون هذا راجعا أيضا إلى توفر الكثير من هذه اللحوم عند منتج الفيلم أحمد السبكي أو لدى شقيقه محمد السبكي الذي جاء إلى السينما من الجزارة وتجارة اللحوم.

وربما كان حريّ بيسري أن يطلق على فيلمه “اللحم والخضرة والوجه الحسن” فهو ينطبق أكثر على ما يصوره الفيلم!

لقد عرفنا يسري نصرالله كمخرج نخبوي من مخرجي سينما المؤلف، أي أنه كان يسعى دائما إلى التعبير عن رؤية ما، فكرية وسياسية وإنسانية في معظم أفلامه، وقد وصل إلى ذروة التعبير الجمالي في فيلم “جنينة الأسماك” (2008)، ولكنه بدأ قبل سنوات يصنع أفلاما تميل أكثر إلى التوجه لجمهور السينما السائدة، كما حدث مع فيلم “وقالت شهرزاد” عن سيناريو وحيد حامد، ثم ما قدمه من رؤية ملتبسة لثورة يناير المصرية في 2011 في فيلم “بعد الموقعة”، وأخيرا ها هو يخضع لإغواء فكرة تقديم فيلم شعبي، يحمّله ببعض أفكاره وإسقاطاته السياسية من خلال قصة تتداخل فيها شخصيات كثيرة متعددة، يتحايل يسري لكي يجعلها واقعية، ولكن دون أن ينجح في جعلها مقنعة.

نصرالله يخلق أجواء ربما كانت جديدة على السينما المصرية، هي أجواء حفلات الأفراح (أو الأعراس)، وما يدور فيها وراء الكواليس، أي إعداد وطهي الأطعمة المختلفة بما في ذلك شتى أنواع الحلوى، تحتكر هذه المهنة أسرة الطباخ “يحيى الطباخ” (علاء زينهم) ومعه ولداه رفعت (باسم سمرة) وجلال (أحمد داود). ولكن رفعت هو الدينامو الحقيقي الذي يتحرك هنا وهناك، يمارس عمله ببراعة، ويدفع شقيقه الأصغر “جلال” للتركيز في عمله بينما يجري جلال وراء نزواته مع حسنية (زينة منصور) المتزوجة اللعوب.

يفترض أن يتزوج رفعت من “كريمة” (منة شلبي) ابنة عمته “فكرية” (إنعام سالوسة)، لكن رفعت لا يحب كريمة التي تحب شقيقه جلال، لكن جلال ليست له دراية بحبها له، فيلاحق حسنية التي تريد أن تخون زوجها معه، وأما رفعت فهو يهيم حبا بشادية (ليلى علوي) التي تعود من الإمارات إثر غياب عشر سنوات بعد أن طلقت ثم فقدت ابنها.

أما الوالد (يحيى الطباخ) الذي يمتلك منزلا يطلق عليه اسم “لوكاندة الطباخ” -وهو عبارة عن مبنى خيالي يجمع بين الفندق والاستراحة والمقهى والمطعم- فهو أيضا لا يمكنه كبح جماح نزواته الجنسية فيستغل حاجة امرأة فقيرة من نساء القرية إلى إطعام ابنها المريض، حتى تمنحه جسدها مقابل بعض معلبات الطعام!

هذه المجموعة من الشخصيات تتحرك في محيط العداء مع عائلة أخرى هي عائلة فريد أبورية (محمد فراج) الرجل الجشع الذي عاد بثروة من الخليج يريد أن يستولي على “لوكاندة الطباخ”، وأن يسخر أسرة الطباخ للعمل تحت إمرته في إعداد الوجبات السريعة (الهامبورغر) والتخلي عن طهي الأطعمة التقليدية، واحتكار تزويد حفلات الزفاف بالمأكولات.

ويفتتح الفيلم به، وهو يصر على تقديم الكفتة خلال الحفل الكبير الذي يقيمه في القرية بحضور السيد المحافظ، بعد وضعها في لفافات من الورق القصديري مما يؤدي إلى تفتتها بفعل الحرارة، يريد الفيلم أن يشير من خلال هذا إلى جهله بتقاليد الطعام الأصيل، غير أن الطباخ يحيى وولديه يرفضون بيع البناية والعمل لحساب فريد أبورية، وفي الوقت نفسه يتزوج المغني الشاب “عاشور” (محمد الشرنوبي) زواجا عرفيا سريا من شقيقة أبورية “فاتن” (لمي كتكت).

أما زوجة أبورية “أم رقية” (صابرين) التي تحتفظ في صحبتها بأسد صغير، فهي امرأة متجبرة متعجرفة، تشعر بالغيرة من “شادية” التي عادت لتخطف الأضواء، بينما تبدو “كريمة” أقرب إلى البلاهة وهي تتلصص على الجميع دون أن تتوقف عن الضحك.

وبينما لا تبدو علاقة رفعت بشادية مقنعة بسبب الاختلاف الكبير في التكوين والانتماء أيضا، يبدو الصراع بين أبورية والطباخ مبالغا فيه خاصة بعد أن يعلم أبورية بزواج شقيقته سرا من المغني فيتفق مع جماعة من الغجر الخارجين على القانون على “تلقينه درسا” ينتهي بقتله ببشاعة.

ويريد نصرالله هنا أن يستعين بقوة متخيلة، من “الغجر” لكي يحملها ارتكاب الشر حرصا منه على تبرئة البسطاء الذين يتعاطف معهم وإن كان يصور انحرافاتهم السلوكية دون أن يعمق فهمنا لها، فتبدو جميع الشخصيات وهي تتحرك على السطح دون أعماق، ولا يمكنك بالتالي أن تتعاطف معها.

يقع يسري نصرالله أولا في مأزق الاعتماد على سيناريو متعدد الشخصيات، مزدحم بحيث لا يستطيع السيطرة على الحبكة، ولا تهيئة الجو ليجعل الشخصيات تتنفس أو تبرز وتكتسب معالم إنسانية واضحة بعيدة عن النمطية السطحية. ويسيطر الطابع الكاريكاتيري على الكثير من الشخصيات بحيث يفقدها معالمها وحضورها الإنساني.

وتتلخص الأنماط في: شاب عابث، امرأة لعوب، شاب رومانسي حالم، فتاة ضحية شقيقها القاسي، رجل ثري يذكرنا بالإقطاعي في الأفلام القديمة، يعتقد أنه يمكنه شراء الآخرين بماله، وفتاة تحاول الوصول إلى قلب من تحب وتعرف أنه يحبها، لكنه يخشى أن يخدش مشاعر شقيقه الذي يظنه مرتبطا بها.
تعدد وتداخل

هذا الازدحام الذي يبدو عشوائيا في الكثير من المشاهد، يهمل الكثير من الشخصيات فلا تتخذ ما كانت تستحقه من مساحة في سيناريو الفيلم وتظل هامشية أو تقفز فوق الأحداث دون مبررات درامية واضحة، يمكن الاستغناء عن وجودها في الفيلم دون أن يؤدي هذا إلى أي خلل، بل ربما يعتدل البناء قليلا، كما في شخصية “أم رقية” مثلا، أو العمة “فكرية” أو حتى شخصية المغني التي وجدت أساسا لإضفاء الطابع “الهندي” الشعبي على الفيلم وتصعيد الأحداث إلى ذروة ميلودرامية ساذجة.

وجاءت بعض المواقف والسلوكيات بعيدة عن منطق الأمور وعن المسار الطبيعي للأشياء، فما معنى أن يكشف الأب فجأة عن كل هذه النذالة التي تتمثل في استغلاله لمحنة امرأة فقيرة تنشد مساعدته، فيموت كما نعرف في المشهد التالي متأثرا بابتلاع أقراص من المنشطات الجنسية!

يحاول يسري خلق أجواء سحرية تبتعد بالفيلم عن طابعه الواقعي ليجعله أقرب إلى أسلوب الواقعية السحرية أو الواقعية الرمزية، في محاولة شاقة لمحاكاة أسلوب المخرج أمير كوستوريتسا في أفلامه الشهيرة، من خلال الحركة المستمرة داخل المواقع الحقيقية، والانتقال من الداخل إلى الخارج، وتعدد مشاهد الرقص والغناء التي يشترك فيها الجميع، واستخدام الملابس والأزياء المبهرجة ذات الألوان الصارخة، واللعب على التناقض بين الطبقات.

لكن تعدد العلاقات وتداخل الشخصيات لا يتيحان الفرصة لصنع دراما قوية تستند إلى أساس واضح، خاصة وأن يسري يحاول ألا يزعج جمهور سينما التسلية بالمزيد من الإسقاط السياسي.

والنتيجة أننا نصبح أمام خليط مشوش مضطرب، وعلاقات تقليدية حد السخف أحيانا، يمكن جدا أن ينطبق عليها مونولوغ أحمد فؤاد نجم الشهير عن “السيما”-أو السينما- الذي يسخر فيه من أفلام “التركيبة” المصرية، أي تلك التي تصور علاقات مفتعلة متوقعة بين الشخصيات، تنتهي نهايات “سعيدة” مصنوعة صنعا ومعروفة سلفا، وهي خسارة كبيرة للسينما وإهدار لطاقة مخرج موهوب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى