لوحات الاسباني خافيير بوغمارتي معلّقة بين ثقافتين

ياسر سلطان

تحمل الشخصية التي ابتكرها الفنان الإسباني خافيير بوغمارتي- على بساطتها- الكثير من الدلالات. هي تتحرك بحرية على مساحة الرسم وتحاول تجاوز حدود وعوائق ثقافية وجغرافية صنعها البشر وأحاطوا بها أنفسهم. تنتقل الشخصية التي أطلق عليها بوغمارتي اسماً مناسباً لطبيعتها «كوزميك» (الكوني) بين الأزمنة مستخدماً مجموعة من الصياغات التصويرية.
يواصل بوغمارتي، الفنان الإسباني المقيم في مصر منذ تسعينات القرن العشرين، رحلته مع تلك الشخصية في معرض «ذكريات ليست للبيع» (قاعة «مشربية- القاهرة). والمعروف أنّ بوغمارتي حين جاء إلى مصر للمرة الأولى لم تعجبه فكرة الإقامة في القاهرة، فاتجه إلى قريةٍ على أطراف مدينة الفيوم، في جنوب القاهرة، وهي مدينة ذات طابع ريفي، وقد مثلّت له اختياراً مثالياً كفنان أولاً، وكإنسان يبحث عن السكينة بعيداً من تعقيدات مفردات الحضارة الحديثة.
من بيته الريفي في الفيوم؛ بدأ بوغمارتي نشاطه المعتاد في الرسم والاختلاط في الحياة الثقافية والفنية في مصر وإسبانيا من خلال عرض أعماله في القاهرة ومدريد ليؤسس ملامح تجربة معلَّقة بين ثقافتين. وفي معرضه الأحدث، واصلت شخصيته الأسطورية (كوزميك) تجوالها عبر الحركة واختراق الأنماط التقليدية للصورة أو اللوحة. يتحرّك كوزميك في أنساق شبيهة بالرسوم الفرعونية، حاملاً الكثير من الأيقونات والعلامات الموحية ومازجاً بين الماضي والحاضر.
الزمن في اللوحات مراوغ؛ يستدعيه الفنان لتحقيق خيالاته وتصوراته على سطح العمل. تتباين اللوحات في هذه المجموعة في الزمان وحتى في العدد.
تُعطي الشخصيات الكثيرة المرتبة في شكل أفقي- كما في اللوحات الفرعونية حينما تلمحها من بُعد- إحساساً بانعدام الزمن. يعطي الترتيب المتكرر للشخصيات على مساحة اللوحة إيحاءاً بوجود قصة ما؛ علينا اكتشافها وتلمس تفاصيلها. غير أنك سرعان ما تدرك أنك تدور في متاهة لا نهائية من القصص والذكريات. فكلّ علامة من العلامات هي عنوان لحكاية أو ذكرى. تترك كل علامة أثرها في الذاكرة عبر هذه الحكايات، التي هي «ذكريات ليست للبيع».
يوظف بوغمارتي في أعماله وسائط عدة، من الفيديو إلى الصورة الفوتوغرافية، فيستخدم كلّ خامة أو أداة يستطيع العمل بها لإنشاء تكويناته التي يغلب عليها قدر كبير من العفوية. هو يرسم على القصاصات الصغيرة من الورق بالمقدار نفسه من الاهتمام الذي يرسم به على الأحجام الكبيرة. هو يجمع بين أعماله عموماً تلك النظرة الكونية التي تميز تجربته، ويتعامل دائماً مع مساحة اللوحة بقريحة طفل يريد أن يشكّل العالم بحسب مخيلته الحيّة والخالية من الذكريات والأنساق البصرية الجاهزة.
يختلق عناصره المرسومة من رحم الأرض ومن تهويمات الغسق. تتخلل تلك العناصر مساحات حيادية وتقاطعات من الخطوط والعلامات. تبدو العلاقات المتشابكة بين كل هذه المفردات سابحة في فضاء اللوحة بعفوية كرسوم الأطفال. بينما يتقافز كوزميك في رشاقة بين المساحات، أو يتوارى بين التهشيرات اللونية. يتقمص بوغمارتي هذه الشخصية الخيالية محلقاً عبر الحدود والثقافات والأزمنة. يتبادلان الأدوار، يحكيان معاً قصصاً لا تنتهي عن الحب والعشق والخيال والسياسة أحياناً. تتشكل تلك الخيالات في مجموعة الصور ومقاطع الفيديو التي يصنعها بنفسه، ويبثها بين الحين والآخر عبر حسابه على فايسبوك. لقد أتاح له موقع التواصل الاجتماعي، كما يقول، فرصة الوصول إلى كل بقعة في العالم من دون عناء عبور تلك الحواجز الكريهة التي صنعها البشر من حولهم. تحولت هذه الشخصية الخيالية مع الوقت إلى ما يشبه الأيقونة التي لا تفارقه. يزين بها ملابسه، أو يعلقها أحياناً كتميمة داخل بيته وسيارته. يتحدث بلسانها ويوزع البهجة على الآخرين.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى