سيرة القاهرة المحروسة في كتاب لرشا عدلي

عمرو عبد العزيز منير

كثيرٌ من الصور واللوحات الفنية النادرة التي يحفُل بها كتاب «القاهرة المدينة: الذكريات»، الصادر حديثاً عن دار «نهضة مصر» للفنانة والأديبة المصرية رشا عدلي، تعكس إحساس الدهشة الذي عايشه الفنانون والرسامون الأوائل وهم يرون تلك القصور والبيوت العتيقة المتفردة في أشكالها، والمتناسقة في معالمها المتألقة تحت الأشعة الذهبية لتظهر تفرد الشخصية المصرية عبر العصور. ومن ثم تظل مقولة الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير: «حقاً إن الشرق يبدأ من القاهرة»، هي المعبرة عن أفكار هذا الكتاب الذي يعرض بالكلمة والريشة همسات الماضي الدافئة للمدينة، ويجعلك تستمع مع رسامي أوروبا إلى صوت الدراويش في طريقهم الى التكايا بملابسهم الصوفية الخشنة وتردد صدى أذكارهم وابتهالاتهم في شوارع القاهرة وهي تبوح بكلمات تنطق بالحكمة، فيفسح المارة الطريق وتعلو زغاريد النساء من فوق الأسطح، فرحاً بالجموع المحتشدة لمشاهدة موكب المحمل الشريف وهو في طريقه إلى الحجاز يتبعه الأمراء وقارعو الطبول. تسود البهجة في الجو من خلال هذه اللوحات الفنية التي تمكن المؤرخ من استعادة أحداث وشخصيات من ذلك الزمن البعيد في شكل لا تنجح الكلمة المكتوبة في إبرازه وتعطي المؤرخ صوراً أكثر صدقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية عن الطبقات الشعبية في القاهرة.
تتجول بنا الكاتبة في الحارات والأزقة بين أرباب الحرف والصنائع والحرافيش في ظل اغتراب العلم التاريخي وتجاهله وتهميشه لبعض الشرائح والجماعات الشعبية، فتنجح في تقديم صورة لمهن مندثرة مثل المشعوذين والحواة، والسقائين والمكاريين (سائقي الحمير)، ومشعلي القناديل والوقَّادين والفحامين. ثم تسوقنا رشا عدلي بين ضفتي كتابها إلى شوارع القاهرة وميادينها حتى نصل إلى ميدان الرميلة تحت القلعة، فيشق السكون صراخ النساء في «الحرملك» بجاذبيته الخاصة وبوصفه عالم السحر والأسرار، وحكايات شهرزاد، والجزء المقدس والمحرم والسري من حياة القاهرة، وهو في ذاته تأويل للعلاقة الرومانسية بالمرأة، تلك العلاقة المضطربة والمتناقضة. فالمرأة بالنسبة إلى الرومانسي هي قدس مملكة الروح والجسد معاً، تتداخل فيها شتى المقولات الرومانسية: الجمال، المتعة، الإثارة، الحلم، الشغف والضعف. ومما لا شك فيه أن فكرة الحريم الشرقي كانت تعابث خيال الأوروبي كلما تذكر الشرق، وتجعله أسير حلم يرى نفسه فيه سلطاناً محاطاً بعدد من الصبايا الجميلات اللاتي لا يحلو لهن شيء قدر السعي إلى إرضائه والمثول بين يديه في طاعة وخضوع، لذلك امتلأت لوحات المستشرقين بصورة المرأة الشرقية في القاهرة بشتى الأشكال والوضعيات والحركات وبخاصة الجواري والإماء اللواتي كن أسخى بعرض أنفسهن وبذلك كان يسيراً على المستشرقين رسمهن.
وعندما ولى عصر الاستشراق وخفُتَ ذلك الوميض الخفي الذي يجذب المستشرقين للنزوح من أوطانهم لزيارة تلك البلدان تماماً كالضوء الذي يجذب الفراشات، حتى الفنان ليون جيروم الذي أثرى ذاكرة الفن بزياراته المتكررة لمصر شعر بتلك الحال من الذبول التي أصابت لوحاته وتكرار تلك الحكايات أدى إلى ملل المشاهدين، ولكن الوميض الذي خفت بنهاية القرن التاسع عشر أضيئت شمعته مجدداً بحلول العقد السابع من نهاية القرن العشرين. فبعد النجاح الساحق الذي حققته تلك اللوحات سواء عبر حشد جمهوري ونسبة عالية في المبيعات في المتاحف والمزادات العالمية لعقود كثيرة، فإنها الآن تثير اهتمام الكثيرين من جمهور الدول العربية، من المحيط إلى الخليج. إنه نوع الحنين إلى الماضي الذي يجرفنا للبحث عما تبقى منا حتى وإن كان في مجرد لوحات. وبالتالي تكمن أهمية الكتاب في مجموعة اللوحات الفنية النادرة الواردة بين صفحاته والتي تعد من أفضل وأشهر اللوحات التي تبقت لنا حتى الآن. والى جانب ما تقدمه لنا هذه اللوحات من المتعة والبهجة والإثارة، فإننا نلمس فيها بوضوح طبيعة العصر وملامح مرحلة تاريخية بذاتها. الكتاب مفعم بتاريخ المدينة الحي والذي ينبض بالحياة باعتباره شاهداً على أحداث العصور المتعاقبة، ولمسة جمال تنثر عبير الأزمنة المولية وتحرك في النفس حنيناً لدفء الماضي الذي يتناغم بإبداعه مع الحاضر ويثير الشجون على آثار القاهرة العظيمة التي لا تزال تقاوم عوامل الفناء.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى