«بدون تأشيرة» نحو فلسطين الروح والذاكرة

مايا الحاج

أثارت مشاركة الكتّاب العرب في ملتقى فلسطين الأول للرواية جدلاً واسعاً بين مؤيّد لزيارة الأراضي الفلسطينية بغية تحطيم حواجز ثقافية وإنسانية فـرضها العدوّ الإسرائيــلي، وآخـر مـعارض للفكرة بدافع التزام عدم التطبيع. وبين هذين الصوتين المتنافرين، يبقى السؤال: من منّا لا يحلم بزيارة فلسطين؟
الجواب حتمي بلا شكّ، لا أحد. كلّنا يتحرق للارتماء في أحضان بلدٍ نولّي وجوهنا، حيثما كنّا، شطر المسجد الحرام ونصوّب قلوبنا نحو كنيسة حضنت المسيح بن مريم طفلاً مباركاً فتباركت أرضها به. ولكن، هل فلسطين الواقع تشبه صورتها المتخيلة في أذهاننا؟
في كتاب المصري محمد هشام عبيّة الجديد «بدون تأشيرة: 120 ساعة في فلسطين المحتلة» (المصري للتوزيع والنشر)، قد تصادف ردّاً على سؤالك عبر تتبّع رحلة المؤلّف الأولى إلى فلسطين.
ينطلق عبيّة، الصحافي ورئيس تحرير جريدة «اليوم الجديد»، في عمله الثاني في أدب الرحلات بعد «الكتاب الأمريكاني»، من دعوةٍ يتلّقاها للمشاركة في «أسبوع الشباب الوطني الفلسطيني». مناسبة الدعوة احتفالية الطابع، والوجهة المقررة رام الله. ويبدو أنّ التضادّ النافر بين طقس الدعوة ومكانها رسّخ فضول الكاتب، أو ربما قلقه. فراح يتساءل: «هل يحتفل الفلسطينينون بشبابهم؟ أم يزفونهم شهداء كلّ يوم؟». ومن ثمّ تزاحمت الأسئلة في رأسه ليجد أجوبة حاسمة تقوّي رغبته في خوض المغامرة، والأصحّ تحقيق الحلم.
الرحلة استوفت شروطها الأساسية، ولم يعد ممكناً رفض هذا «العرض» المنتظر. لا تأشيرة إسرائيلية على الجواز، الدخول إليها يتمّ عبر تصريح من السلطة الفلسطينية، من معبر الملك حسين إلى رام الله مباشرةً.
بداية الكتاب/ الرحلة لا تعني لحظة الوصول. فالمغامرة تبدأ وهو في القاهرة. وقد أحسن انتقاء اللحظة التي يستهلّ بها رحلة بدأت بمشكلة كادت تمنعه من تحقيقها. يكتشف فجأة أنه لا يحمل تصريح الجيش المصري، فيذهب من فوره الى إدارة التجنيد ومنها الى السجلات العسكرية قبل أن يعود الى المطار متأخراً عن الوقت، فيبقى منتظراً إقلاع الطائرة التالية. يرصد الكاتب لحظاتٍ صعبة قضاها في مطار القاهرة، خائفاً، وجلاً، مشتاقاً، منفعلاً، كأنّه عاشق يتهيّأ لملاقاة معشوقته. ولمّا وجد مكاناً في الطائرة الثانية، جلس على المقعد كاتماً أنفاسه، وفي داخله صرخة مدوية «جايلك يا فلسطين».
حين يصل إلى الأردن، يشتري كتاب «أنا وكامب ديفيد» لموشى ديان، فيتعرّف عن كثب إلى حقيقة مجرم إسرائيلي وقح يكتب صراحةً: «الضفة الغربية هي وطننا الأم، وكلّما كان الأمر بأيدينا فيجب الإمتناع عن تسوية نُصبح بموجبها غرباء في هذ المنطقة».
جاء هذا الكتاب ليزيد كرهه تجاه عدوّ يلتقيه لأوّل مرّة وجهاً لوجه، في المنطقة الحدودية بين الأردن وفلسطين. «أمام شباك يجلس خلفه موظف اسرائيلي لزج، ينفّذ دوراً مكتوباً له بتعطيل خلق الله واستفزازهم بطريقة غبية».
الإجراءات الأمنية «السخيفة» في المعبر هي قدر يومي للفلسطيني. المشهد المعيش يختلف عن المسموع. الانتظار هنا ليس فعلاً عبثياً كما عرفناه في مسرح بيكيت أو يونيسكو، إنما هو انتظار سياسي، عنصري، طائفي آثم، يُجرّد الإنسان من إنسانيته ويُحيله شيئاً حقيراً بلا قيمة.
ولأنّ تعليمات الفلسطينيين قضت بعدم استفزاز الموظفين الإسرائيليين بأيّ ردود حادّة، يحاول الكاتب أن يكتم انفعاله أمام الموظف الإسرائيلي الذي يضفي بحضوره «اللزج» جوّاً دبقاً لا يُطاق. يكتفي بعدم النظر إليه مباشرةً، وحين يسأله بلغة عربية «مغتصبة»: «أنت مصري؟» يدخل الكاتب في حوار متخّيّل معه، يحمل بلهجته المصرية كثيراً من المرارة والطرافة في آن: «أيوة يا روح أمك، مصري. فيه حاجة؟ قطعناكم في ستة أكتوبر»…
ومع خروجه من المعبر، يصادف فلسطينيين من القدس، يحملون الجواز الإسرائيلي ويتابعون باهتمام مباراة في كرة القدم بين فريقين إسرائيليين «مكابي إسرائيل» و «مكابي حيفا».
هذا المشهد يُشوّش تفكيره، من دون أن يسيطر عليه لأنّ المشاهد تتسارع لتثير عجبه حيناً ودهشته أحياناً. «مول» فخم في رام الله، مستوطنات إسرائيلية على الطراز الأوروبي، جدار الفصل العنصري، أشجار زيتون باسقة… وحين تُطالعه لافتة بالعربية والعبرية مكتوب عليها: «هذا الطريق يؤدي إلى أماكن فلسطينية… الدخول للمواطنين الإسرائيليين خطر»، يشفى غليله لكونه يلمس حقيقةً رعب المحتلّ الذي لا ينتهي مهما بلغت هيبته وهيمنته.
ينقل الكاتب معلومات وحقائق صدمته في رام الله، منها تضاعف عدد المستوطين الإسرائيليين فيها من 105 آلاف مستوطن قبل اتفاق أوسلو إلى 650 ألف. فيقول: «هذا احتلال بشري وديموغرافي لا يعتمد على الدبابات والسلاح، لكنه أثقل وجوداً على الأرض».
وحين وصل إلى نابلس، عاصمة فلسطين الإقتصادية، المحفورة في الذاكرة الجماعية بصابونها وكنافتها، انبهر بجبال بيوتها ساكنة بوداعة لا تليق ببلد محتلّ. في نابلس المشهورة بجامعتها (النجاح) ومكتباتها، أطلّ الكاتب على الحياة الثقافية في هذه المدينة الغنية. زار المكتبة الشعبية لصاحبها صالح الخندقجي. سأله عن الكتب الأكثر مبيعاً، فقال إنّ رواية الجزائرية أحلام مستغانمي «الأسود يليق بك»، وكانت حينها صادرة حديثاً، تحتلّ أعلى المبيعات. ومن الكتب المصرية، يُقبل النابلسيون على أعمال محمد حسنين هيكل وفرج فودة ويوسف زيدان، وإن كانت رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان» حققت النسبة الأعلى من المبيع بمعدّل ألفي نسخة في عامٍ واحد. ولمّا سأله عن كيفية وصول هذا الكمّ من الكتب وسط عذابات المعبر المعتادة، أجاب بابتسامة ذات مغزى. فيعلّق الكاتب: «إنهم (يضربون) الكتب في نابلس كما يحدث في مصر. ولكن ربما يكون هذا الضرب هو التزوير الحلال هذه المرّة».
في اليوم الأخير، كانت «زيارة خاطفة للروح» إلى مهد المسيح، رحلة روحية خالصة تُنسيك أنّك في وطنٍ تحتله الدولة الأجرم في العالم. وأمام الكنيسة التي انضمت إلى قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، يتذكّر الكاتب بأسى حادثة «حصار كنيسة المهد» التي وقعت في ذروة الانتفاضة الثانية، لتجعل من المكان الآمن ساحة قتال دموية شارك فيها ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي ومئتا دبابة.
يختتم الكاتب رحلته في متحف محمود درويش حيث تعيده صور درويش ومقتنياته إلى كل الوجوه التي صادفها والشوارع التي زارها مستعيداً مقولته الشهيرة: «أخذوا الأرض لكنهم لم يأخذوا الذكريات».
زيارة فلسطين ليست تجربة خاصة، يصوغها الكاتب من نظرةٍ ذاتية، إنما تجربة إنسانية تختزل مشاعر لقاء أحدنا بوطنه الأم. لكلّ منّا وطنه، لكنّ فلسطين، مذ اغتُصبت على مرأى الشعوب كلّها، صارت أمّ الأوطان العربية. كُتب عارها على جبين كلّ عربيّ، وخلّف وجعها حزناً عميقاً في عيوننا، نتوارثه جيلاً بعد جيل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى