النيل ما زال يجري ويلهم الرسامين في مصر

محمد عبد الهادي

الكثير من التشكيليين في مصر يعتبرون النيل بمثابة “التطهير”، سواء بالمعنى الظاهر للكلمة، أي الغوص في مياهه والاستحمام بها، أو بالمعنى المعنوي، أي بتصفية الروح الإنسانية والحد من غريزتها وما يشوبها من الصفات غير الحميدة وتطهير النفوس من الانفعالات الضارة.

وارتباط الفنانين التشكيليين بالنيل أثر على حياتهم وجعل الكثيرين منهم يفضلون السكن قربه حتى لو كان ذلك في مناطق عشوائية، فضفاف النهر تعني لهم الحياة بكل مقوماتها، ولها خصوصية ترتبط بنسيج الشخصية المصرية والإرث الحضاري للفنان المصري القديم الذي يعتبرون أنفسهم امتدادا له.

ومن هؤلاء الفنان التشكيلي المصري فريد فاضل الذي يقطن بمنطقة المَنيل بالجيزة (جنوب غرب القاهرة) المطلة على النيل، والذي يقول عن النهر “لا يمثل لي مكانا جيدا للرسم فقط، بل نمط حياة، ولذلك أتجول يوميا على ضفافه لمدة تقارب الساعة في رحلة ذهابي وإيابي من مستشفى أمراض العيون بالجيزة التي أعمل فيها طبيبا، وتلك الرحلة اليومية هي مصدر إلهامي والمسيطر الرئيسي على معظم أعمالي”.

ويضيف لـ”العرب”، أن رحلته اليومية على النيل هي التنقية النفسية التي تعطيه دفعة للإبداع، فالنيل متجسد في الكثير من أعماله بصور مختلفة، سواء كان هو البطل أم كان خلفية لشخوص أعماله الذين يأتي معظمهم من الواقع، فالنيل، وخصوصا في منطقة الصعيد، يمتاز بسحر خاص، إذ يمثل الأصل والمنبع الذي نشأت منه مصر والأرض البكر الصالحة للوحة جيدة.

وبعد تعرض هذا النهر الخالد للتشويه بسبب إلقاء المخلفات فيه والبناء العشوائي على جانبيه ابتعد عدد من الفنانين المصريين في السنوات الأخيرة عن “الواقعية” في التعامل مع النهر، ولجأوا إلى المزج بين الرومانسية والانطباعية في الرسم إلى جانب إضفاء عناصر تمنح لوحاتهم الفنية جمالا.

وبدوره يؤكد الفنان التشكيلي المصري محمود فتيح أن نهر النيل لا يزال مصدر إلهام للفنانين رغم فقدانه الكثير من العناصر الجمالية التي كانت تجذب الرسامين، مثل سواقي الري وأبراج الحمام والأراضي الخضراء على جانبيه، والتي حلت محلها العمارات الشاهقة التي تحجب جمال النهر والقصور التاريخية التي كانت أحد عناصر جذب ريشة الفنان.

وربما يكون إحساس الفنان بغياب الشكل الجمالي عن النيل حاليا الدافع وراء استدعاء الماضي في الكثير من اللوحات، والتركيز على الرسومات الخاصة بالصيد في النيل أو المراكب الشراعية القديمة التي اختفت، وكذلك الفتيات اللاتي يحملن أواني فخارية تُملأ بالمياه من النهر، والتقليل من الرسومات التي تعبر عن واقع النيل المتدهور حاليا.

وبات الفنان المصري يعاني هذه الأيام من البحث عن لقطات جمالية يجسدها، وينزوي الجمال الآن لصالح القبح، في النيل أو الحارة أو القرية، وبعد أن كانت كل خطوة على النيل أو الأماكن المحيطة به تصلح للوحة فنية سيطرت ثقافة القُبح واختفى الجمال. ووقع الرسامون الأجانب في أسر عشق النيل أيضا، كالرسام الإنكليزي إدوارد لير الذي ركز في زياراته لمصر على النيل، ورسم عنه 15 لوحة تناولت النهر والمراكب الشراعية وصنادل النقل الضخمة، وعمال المحاجر والصيادين، وكذلك فعلت الفنانة البلجيكية نادين فيفيه التي افتتحت معرضا للنيل بالقاهرة ضم 50 لوحة عنه نهاية عام 2016.

ويقول الفنان المصري أحمد بيومي “نهر النيل ضيف دائم على معارضي، ففي كل واحد منها لا بد أن أخصص لوحة أو اثنتين عنه، وأعتبر أن الأمر يحمل عنصرا شخصيا بالنسبة إلي، بسبب ارتباطي بهواية الصيد…، إذ يكون الصيد فرصة للتأمل والنقاء النفسي، والطبيعة تظل المعشوق الأول لفناني مصر”.

وأكد الفنانون الذين يعيشون على عائد بيع لوحاتهم، لـ”العرب”، أن الطبيعة والنهر لا يزالان الأكثر طلبا من الجمهور، وكانت لوحة الفنان المصري محمود سعيد، عن النيل بصعيد مصر والتي تحمل عنوان “صخور ومرتفعات في أسوان” الأغلى سعرا في مزاد “كريستيز” الذي انعقد في دبي في مارس الماضي، وبيعت اللوحة التي تم رسمها عام 1949 بنحو 680.7 ألف دولار.

ولم يكن النيل مصدر اهتمام الفنانين فحسب، بل أثر في حياتهم أصلا، فالكثيرون منهم لا يمر عليهم يوم واحد دون المرور على ضفافه لخلق حالة نفسية تهيئهم للإبداع، وبعضهم جعله وسيلة احتجاج كالنحات جمال السجيني الذي ألقى تماثيله في النيل احتجاجا على عدم تخصيص أماكن للنحاتين لعرض أعمالهم بالميادين والشوارع.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى