الألماني راين ستاتش يكتب سيرة جديدة لكاتب العبث الأشهر

ابراهيم قعدوني
يُقدِّرُ راينر ستاتش الباحثُ المتخصّص في أدبِ فرانز كافكا وسيرته أنّ هنالك ما لا يقلّ عن 130 ألف موقع على شبكة الإنترنت مخصصة لتناول أدب كافكا وحياته. وبعد أن تصفّح ستاتش قُرابةَ 500 من تلك المواقع كما يقول، قرّر التفرّغ لوضع سيرةٍ متكاملة لحياة الأديب التشيكيّ ذائع الصّيت وذلك لما لَمَسه ستاتش من إساءة لفهم الكثير من جوانب حياة كافكا كما يقول.
يا لتعاسةِ فرانز كافكا، فكما أساءَت عائلته فهمَ شخصيّته، كذلك أساء العالمُ فهمَ حياته الأدبية بعد رحيله. ذلك ما يذهبُ إليه الألماني راينر ستاتش في كتابه الذي أعاد فيه كتابة السيرة الشخصية لكافكا، وهو الكتاب الصادر نهاية العام الماضي بعنوان «كافكا: السنوات الأولى». وتبعاً لما يراه ستاتش فإنَّ كافكا لم يكُن بالعصابيّ المُنفصِل عن الواقع وفقاً لما ذهب إليه الروائي البولندي إسّحاق باشيفيس سنجر في قصّته التي كتبها عام 1960 بعنوان «صديق كافكا» وأشارَ فيها إلى انطوائية كافكا التي أعاقتهُ في كلّ شيء في حياته، كذلك لم يكُن والدُه المتسلّط وعلاقته الصعبة معه مصدر رُعبِه الوحيد كما أظهره ألان بينيت في مسرحيته المعروفة باسم «قضيبُ كافكا» التي عُرِضت في الثمانينات من القرن العشرين.
في هذا الكتاب، والذي يُعدُّ الأخير ضِمنَ ثلاثيّةٍ خصّصها ستاتش لسيرة كافكا، يقترب المؤلّف من الحياة الشخصية للأخير أكثر مما يهتمّ بالتناول النقديّ، غيرَ أنّه يقارب الشخصيّ في حياة فرانز كافكا على ضوءِ مختاراتٍ من نصوصه مؤسّساً لسياقٍ تأويلي يساعد في إضاءة الكثير من جوانب حياة الأديب القصيرة نسبيّاً (رحل كافكا في سن الأربعين). وكما يوضّح ستاتش في مقدّمة كتابه فإنَّ الجديد في هذا المجلّد الثالث والأخير من سيرة كافكا هو إلقاؤه الكثير من الضوء على المرحلة التكوينيّة في شخصية كافكا، وقد تأخّر هذا المجلّد نظراً لما لاقاه المؤلّف من صعوبةٍ في الوصول إلى الوثائق والمستندات التي تتصلُ بحياة كافكا والتي تجعلُه يبدو كشخصيّةٍ لم نعرفها من قبل.
في مقدّمة النسخة الإنكليزية التي جاءت بتوقيع المترجمة شيلّي فريش بأنَّ القارئ “سيشهدُ انهيار الأساطير السائدة حول فرانز كافكا” من خلال اشتغال المؤلّف ستاتش على تحليل مجموعة من نصوص كافكا والدراسات الأكاديمية التي واكبتها خلال ما يربو على نصف قرن ومن بينها على سبيل المثال ذلك الجانب الشخصيّ الذي يتناول كافكا كموظّف يعمل في قطاع التأمين.
في العام 1919 كتَبَ فرانز كافكا رسالته الشهيرة «رسالةٌ إلى والده» والتي تحوّلت إلى كتابٍ فيما بعد، وفي تلك الرسالة لامَ كافكا أباه على “الإساءة العاطفية” والسلوك والنفاق الذي مارسه إزاء ابنه، مما جعله يعاني طيلَةَ حياته الخوف من العقاب والشعور الدائم بالذنب. كان كافكا يأمل أن تَجسِرَ تلك الرسالة الفجوة بينه وبين والده هيرمان، على الرغم من النقد شديد اللهجة الذي ضمّنه فيها.
بيدَ أنَّ ستراك، وخلافاً لما ذهب إليه النقاد، يرى أنَّ مِحنَةَ كافكا الحقيقية لم تكن الإذلال الذي لاقاه على يد والده، إنّما ذلك الشعور بالوحدة والذي كان تأسيسيّاً في تكوين شخصية كافكا ولازمه طيلة حياته، فحتّى سنّ الرابعة، كان والده دائم الانشغال في متجر العائلة على مدار 12 ساعة في اليوم وطيلة ستّة أيام في الأسبوع. لقد تعلّم كافكا أنَّ العلاقات الاجتماعية كانت مشحونةً وغير مستقرّة وهذا ما سيظهرُ جليّاً في أدبه لاحقاً.
وكما يرى ستاتش فقد تفاقم ذلك الإحساس بانعدام الأمان والذي ترافق مع التهديدِ الذي لمسه الفتى بالغُ الحساسية في العالم الذي راح يتفحّصه من حوله، بدءاً بالنظام التعليمي القائم على امتحاناتٍ قاسية وما يقابلها من مخاطر الفشل في اجتيازِها، إلى مجتمعٍ يكابدُ التوتّر الحاصل بين التشيك والألمان والذي كان اليهود ضحاياه في الغالب، إلى الاختراعات الجديدة كالطائرات التي أرعبت كافكا بقدر ما أبهجَته.
يواصل ستاتش ملاحظته تلك قائلاً بأنَّ الذنب والعقاب المقابل له هيمَنا على شخصية كافكا منذ سنة 1912 -وهي السنة التي كتَبَ فيها رواية «المَسخ»- وحتى العام 1915. غيرَ أنَّ أعماله اللاحقة أثارت سؤالاً جديداً هو “ما الذي يتعيّنُ على البشر فِعله ليحظوا بقبول مجموعةٍ ما، ولماذا لا يحظى البعض بالقبول؟” وهو السؤال الذي تصدّى له كافكا في روايةٍ لم تكتمل اسمها «القلعة» يرى ستاتش بأنّها أهمُّ أعماله التي كتبها قبل عامين من وفاته متأثّراً بمرضِ السل عن 40 عاماً سنة 1924.
يكتَسِبُ الخط الذي يرسمه ستاتش بين سنوات حياة كافكا الأولى وبين سنواته اللاحقة أهميّةً خاصّةً اليوم في ظلّ الردّة العنيفة التي يشهدها العالم إزاء العولمة، فالكتابُ يتتبّعُ حياةَ ذلك المبدع “الذي لطالما أُسيءَ فهمه” وهو اليهودي الذي كان يتكلّم اللغة الألمانية ويعيش في مدينةٍ يحكُمها إمبراطور نمساوي قبل أن تؤول إلى حُكمِ القوميين التشيك. ثمَّةَ ذلك الانتقال من “الشعور بالذّنب إلى سؤال الهوية” بحسب ما يقوله ستاتش الذي يُردِف قائلاً بأنّه “سؤال من أكون؟ وهو السؤال الذي يتعلّق في نهاية المطاف بسؤال إلى أينَ أنتمي؟”.
كان من شأن صعود النزعة القومية في السنوات اللاحقة من حياة كافكا أن تزيد من تعقيد الواقع الذي يحياه وتعميق اغترابه الذي سيرافقه حتى الممات، بل والذي سوف يستمرّ بعد وفاته كما يقول ستاتش، إذ أنفق الأخير سنواتٍ وهو يحاول إقناع الوريث الإسرائيلي لماكس برود، صديق كافكا ووصيُّه الأدبي الذي غادر براغ إلى فلسطين في ثلاثينات القرن الماضي بُغيةَ السماح له بقراءة مذكّرات برود. ولا يذكُرُ ستاتش كيف استطاعَ في النهاية حيازة نُسَخٍ لثلاثة مجلّداتٍ من تلك المذكّرات التي تتحدّث عن عالم بْرود وكافكا.
في الآونة الأخيرة قضَت المحكمة الإسرائيلية العُليا بحِفظِ مخطوطات برود في المكتبة الوطنية، وإذا ما كان خبرٌ كهذا جيّداً للعامّة، إلاَّ أنّه أيضاً يُكرّسُ اغتراب كافكا الذي سيبقى بلا جذور وستظلُّ مخطوطات سيرته وسيرة بْرود متناثِرةً ما بين ألمانيا وبريطانيا وإسرائيل. لا يخلو الأمرُ من اللامبالاة التي يُغّذّيها ذلك الاغتراب، فقد سبق وأن أهمَلت النمسا المَصَحَّ الذي توفيّ فيه كافكا والموجود في مدينة فيينا. كذلك فقد تخلّت برلين عن احتفالها المعتاد بكافكا لصالح بعض المبادرات الخاصّة. أمّا جمهورية التشيك فتعامل كافكا كرمزٍ سياحيّ أكثر من كونه أيقونةً أدبية، وكما يرى ستاتش فإنَّ في ذلك ما يفاقِمُ اغترابَ كافكا حتى في مماته إذ “ليس ثمَّةَ من بلَدٍ يشعُر بالمسؤولية عنه. ثمّةَ قدرٌ كبير من العبَثِ في واقعٍ كهذا”.
(العرب)