«صابرة وأصيلة» في مرآة اللغة

محمد الغزي
ما فتئت الرواية الحديثة تنعطف على ذاتها لتتأمّل وظائفها، وتتدبّر منزلتها أو تصوّر لحظة تخلّقها جامعة بذلك بين الإبداع والتأمّل في الإبداع جمع تآلف وانسجام. ولم ينشأ هذا النمط من الرواية عن رغبة في التعليم والتوجيه وإنّما نشأ عن اقتناع بأنّ العمل السرديّ هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمّل ذاته باستمرار، فالرواية الحديثة أصبحت في معظم تجلّياتها تخبر عن نفسها فيما تُخبرُ عن العالم، وتحيل على ذاتها فيما تحيل على الخارج ناهضة، على حدّ عبارة رولان بارت، بوظيفة مزدوجة: الوظيفة الأولى تتمثّل في إشارة الرواية إلى ما هو خارج عنها، والإيماء إلى الواقع الذي صدرت عنه. أمّا الوظيفة الثانية فتتمثّل في إشارة الرواية إلى ذاتها، من أجل فضح لعبتها السرديّة، أوكشف آلياتها وقوانينها الداخليّة، أو التعليق عليها.
فالسّرد الحديث أصبح موضوعًا وتأمُّلاً في الموضوع ما فتئ يتنقّل بين نصّ العالم وعالم النصّ ساعيًا إلى لفت انتباهنا إلى مدلولاته من ناحية وساعياً في الوقت ذاته إلى لفت الانتباه إلى دوالّه منتهكًا بذلك ميثاق القراءة الذي يقوم على التفريق بين الأنواع والأجناس، مؤسّسًا فضاء جديدًا يسوده الالتباس حيث نجد االسّرد والتّفكير في السّرد يتداخلان ويترافدان.
والمتأمّل في أعمال الروائيّة العمانيّة غالية آل سعيد يلحظ تواتر هذه الظاهرة، ظاهرة التفات الرواية إلى نفسها في الكثير من نصوصها، كاشفة من خلالها عن أسرار الكتابة ولطائفها الخفيّة.
وسنقتصر على إحدى رواياتها وهي رواية «صابرة وأصيلة» لتوضيح هذه الظاهرة وإبراز خصائصها.
منذ الصفحات الأولى من الرواية تطفو «صابرة « على سطح الأحداث بوصفها الشخصيّة الرئيسة، وهي شابّة مولعة بكتابة القصّة، تريد من خلالها أن تتدارك الخلل الذي أصاب العالم من حولها. فالكتابة، عندها، أكثر من هواية… إنّها فعل خلاص، عن طريقها تتحرّر من واقع يسفح إنسانيّتها، ويطفئ جمرة روحها.
صابرة تكتب وتستدرك على ما تكتب، فصفحاتها كثيراً «ما تحتوي على أحداث دمويّة تقع بصورة سريعة ومفاجئة…» وهذا التمشّي من شأنه أن يخلّ بمسارّ الرواية التي تنوي كتابتها، ويمزّق نسيجها الدرامي، لهذا وجب التأنّي في تركيب الأحداث، كما يجب استبعاد النهايات باستمرار.
لكنّ الخلل لا يطول الأحداث فحسب بل يطول الشخصيّات أيضاً… فقد بدت شخصيّاتها «مخلوقات غريبة الأطوار أصابها الخبل والجنون» لا تعرف الطريق الذي ينبغي اتباعه.
ثمّة إحساس يخامر الكاتبة الشابّة أنّ الشخصيّات تتمرّد على إرادتها، تنحت لنفسها أقداراً جديدة، تختار سبلاً غير التي رسمتها صابرة.
بهذه الطريقة تتحدّث الرواية عن مراحل الكتابة، عن أسرارها، عن مضائقها، ومغالقها وهي مسائل كانت إلى وقت قريب من اختصاص النقاد يثيرونها في دراساتهم ومباحثهم، لكنّ الرواية الحديثة باتت مختبراَ كبيراً، يجرّب الكاتب داخله أصنافاً من الكتابة شتّى. بل بات يجمع بين الكتابة الإبداعيّة والكتابة النظريّة في وحدة لا تنفصم عراها… كلّ هذا من أجل بلوغ ذرى تعبيريّة وجماليّة جديدة.
وفي صفحات من الأدب الرفيع تحدّثنا الكاتبة/الراوية عن العلاقة التي عقدت بين صابرة وشخصيّاتها: «كانت شخصيّات الروايات وأبطالها ملء العين والبصر عندها، لدرجة أنّها كانت تأخذ منهم النّصيحة وتقع في حبّهم، يزيد حبّها لهم ويشتعل عندما يغادرون مسرح الأحداث ويموتون. أدمنت صابرة لعبة منح الحياة لأبطالها ثمّ انتزاعها منهم وأحبّت الإثارة التي تغمرها في لحظات الخيال الجامح والاحتمالات التي لا حصر لها…»
هذه الفقرة تختزل، على نحو جليّ، علاقة كلّ روائيّ بشخصياته، هذه العلاقة التي تلغي الحدود بين الواقعي والمتخيّل بحيث تتحوّل هذه الشخصيّات التي هي، في الأصل، كائنات من ورق إلى كائنات واقعيّة، مفعمة بالحياة تتصل بوشائج عميقة بالكاتب.
وفي هذه الفقرة التي اقتطفناها من الرواية ما يذكّرنا بالكاتب الكبير غي دي موبسان الذي كان، في آخر حياته، يخاطب شخصياته القصصيّة ويعقد حوارًا معها. بعد أن توهّم أنّها قادرة على الانسلاخ عن رواياته والحضور في العالم.
ومن المعروف أنّ الكاتب الفرنسي قد أصيب، في آخر حياته، بالزهريّ الذي أثّر في مداركه العقليّة. وفي تلك الفترة كتب رائعته «لوهرلا» يصوّر فيها هلوساته الكثيرة.
تستمرّ معاناة الكاتبة الشابّة مع الكتابة محاولة تطويع قوانين الرواية إلى إيقاع حياتها… لكنّها تقف، في آخر الأمر عاجزة عن إنجاز حلمها فتلقي بعملها المبتور في النّار. جاء في الرواية:» لا تتدخّل لإنقاذ كتبها من لهب الجحيم الذي يلتهمها سطرًا بعد سطر، لحسن حظّها لم ينتبه لها أحد وهي تقوم بهذه المهمّة قرب النّار، حيث الأشباح ترقص فرحًا على طبول الخراب والدمار…»
على هذا المشهد النّاري تنتهي قصّة صابرة مع روايتها التي أكلتها ألسنة اللهب قبل أن تكتمل، معلنة، بطريقة خفيّة، مضمرة، عن نهايتها هي بوصفها شابّة لا يتّسع المجتمع لأحلامها وطموحاتها وهي كثيرة.
إنّ هذه الجوانب «الميتا السرديّة»، إذا أخذنا بمصطلحات النقد الحديث، قد حوّلت الخطاب الروائي إلى خطاب مضاعف يجمع بين الممارسة النصية والتفكير فيها لكن هذا التفكير، كما يتّضح من خلال هذه الرواية، لا يتوسّل بآليّات التفكير الموضوعي، أي بحياد العقل وصرامة المنهج، فذلك ممّا يندّ عنه طبع الفنّ الروائيّ وإنّما يتوسّل بحرارة التجربة وألم المكابدة، فالروائيّ يفزع، وهو يتأمّل منابت الكتابة وآليّاتها، إلى تجربته الذاتية يستنطقها.
(الحياة)