جان باتيست بيرونو ورسم الوجوه

أسعد عرابي
غالباً ما تُغرينا عروض ما بعد الحداثة، بتزاحمها، وضجيج نجومها الإعلامي والنقدي، فيفوتنا التمهل أمام ذاكرة صنّاع تقاليد مئات السنين أي المعلمين المؤسسين الكبار، والذين تركوا ميراثاً روحياً إبداعياً لا يستنفد.
ها هو اليوم «متحف أورليان» يدعونا لمراجعة وتقويم هذه الجعبة الثرية، بدلاً من الجحود المزمن، وذلك من خلال معرض لعدد كبير من لوحات جان باتيست بيرونو المختص بفن البورتريه (رسم الوجوه)، يعيده المتحف إلى مساحة الضوء التي يستحقّها طالما أنه لا يقل أهمية عن المعلم فانتان لاتور، وهما عملا في الفترة نفسها وأنجزا معاً لوحات قصر فرساي، وعملا على تطوير مادة ألوان الباستيل (الحوار أو الطبشو) بتهشيراته المخملية العاطفية، ورهافة درجاته التي وصلت بعد قرنين إلى ذروة الكمال التقني والأدائي مع لوحات راقصات الباليه للفنان إدغار ديغا. لم يكن من اليسير جمع لوحات جان باتيست بيرونو على رغم أن بعضها تحفظه متاحف اللوفر في باريس وبوردو وأورليان، فأغلبها مبعثر بين أيدي أصحاب المجموعات العالمية بخاصة في الولايات المتحدة الأميركية. ينطبق على فضل هذا المتحف القول الشائع «إحياء تاريخ ما أهمله التاريخ».
ولد فناننا في باريس عام 1715، وتوفي في أمستردام عام 1783. ليس غريباً أن يتوفى في بلد رمبرانت وفيرمير. فقد كان كثير الأسفار، مما منح أعماله صفة الشمولية الأوروبية، فتردده على روما وإعادة تحصيله الفني فيها، عرفه على نزعة القرن السادس عشر الميلادي المعروفة باسم «المانييريزم» التي تعتمد على الأسلبة الحرة ومثالها الإسباني (أو الطليطلي) الغريكو، بصفتها المرحلة المتوسطة بين عصر النهضة الكلاسيكية والباروك، استثمر مختبرها وتجاربها الشجاعة بيرونو، وأثر على زميله الأشهر منه لاتور. لم يقتصر في أسفاره على بندول «باريس – روما» وبالعكس، بل حطّ رحال خبرته في محطات أوروبية متباعدة ما بين لندن ومدريد وبطرسبورغ وبولندا وأمستردام ثم هامبورغ. ناهيك عن تجواله في متاحف بلده ما بين باريس وتورين.
هو أول معرض شامل لهذا المعلم، يستمر حتى أواخر أيلول (سبتمبر). صادف مع ارتفاع أسعار لوحاته الباستيل في مزادات «ريشيليو درووت» وسواه، اقترب ثمن إحدى لوحاته من مليوني يورو. وقد ساعد أساتذة وطلبة البوزار في المدينة على إنجاز المشروع لمصلحة المتحف وتعاونت متاحف عالمية لإنجاحه، مما يفسّر انفجار شهرته بشكل مفاجئ بعد صمت قرون.
اختص بيرونو برسم الوجوه (البورتريه) مع زميله فانتان لاتور، يصور وجوه النبلاء والأرستقراطيين والطبقة الحاكمة الملكية والكنسية وأعيان التجار والطبقة البرجوازية، ثم وهو الأشد أصالة أفراد عائلته وصورته هو نفسه في المرآة مرات عدة بما يدعى بالأوتوبورتريه. وهنا نقع على خطأ أو تعسّف شائع باعتبار رسم الوجوه أقل مرتبة من بقية المواضيع الدينية أو الميثولوجية أو الطبيعية لكن مع الثورة الإنطباعية (كمقدمة للتجريد الغنائي) ثبت أن الأداء أشد أهمية من الموضوع، فعومل الرأس مثل أي عنصر آخر ولكنه أشد عناية ونبلاً على غرار بورتريهات أدوار مانيه (مثل بورتريه الشاعر مالارميه) أو السيدة كاسات زوجة أخيه وبخاصة صوره في المرآة، وحذا حذوه كلود مونيه.
من المصادفات الإيجابية تزامن معرض بورتريهات سيزان وخصائصها (الذي تعرضنا له في موضوع قريب). اذا كان ليوناردو دا فنشي يعيد على مسمع مريديه أن «من يرسم اليد بإمكانه رسم أي شيء»، فما بالكم بالرأس ونسبه التي ثبتها عصر النهضة وتقاطع محاور الجمجمة وتمفصلها مع كامل الجسد ؟… تحضرنا عبقريات تقع خلف فن البورتريه والأوتوبورتريه، ابتدأت مع عشرات منها تمثل مرآة رامبرانت التراجيدية، وتوالي مصائبه حتى أعياه الوجود وقارب وجهه الموت. أغرت هذه الحالة بعض الدراسات التي تربط سياق مسيرة حياته المعمرة بتطور ألوان وجوهه الداخلية في مرآة الأوتوبورتريه. لا يقل فيرمير عمقاً عنه، ولا ليوناردو (صاحب الموناليزا) ولا موديلياني ولا فرويد ولا بيكاسو ولا جياكوميتي وبيكون والقائمة أطول في امتدادها من أن تحفظها الذاكرة.
يعمّم منتقدو فن البورتريه ظاهرة الاستهلاك الرخيصة التي تُغري سواح طرق وساحات حي مونمارتر في باريس وسواه، بل أن بعض المعروفين لم تكن الوجوه التي رسموها لأصحاب السلطة تخلو من النفاق بخاصة الرؤوس الفاشية أو النازية أو الديكتاتورية العسكرية والإيديولوجية، ناهيك عن مزاحمة أسلوب الصور الضوئية (الفوتوغراف) الذي أنتج اتجاهات رديفة نقلية مثل «الهبرياليزم» وسواه أو فن الفيديو…
ثبتت أصالة المعلم بيرونو إحكام موقع الرأس من الفراغ. لأن البورتريه يعني أحياناً «التصوير النصفي» فيعانق القسم الأعلى من الجسم، أكثر من اهتمامه المجامل بتحسين الملامح. بل أنه وصل مع زميله لاتور إلى سبر الشبه البسيكولوجي والسلوكي الداخلي، وهنا نصل في فن البورتريه إلى ما وصلته عبقرية فرانشيسكو غويا وفيلاسكيز، حتى ليكاد تاريخ التّصوير والنحت يرتبط عموماً بالجسد البشري بخاصة الرأس منه سواء كان أنثوياً أم ذكورياً.
(الحياة)