التونسية سُنية مدوري: أنا ضد التصنيف الجندري للكتابة

منى حسن
ترى الشاعرة والمترجمة التونسية سُنية مدوري أن الشاعر مرآة واقعه، فوحده القادر على وصف الواقع وتجميله وإنبات أجنحة للحلم.. وهي حائزة على عدة جوائز وطنية وعربية وعالمية أهمها: جائزة أفضل مخطوط شعري عن ديوانها « فردوس الكلمات» بمهرجان الشعر بنزرت 2011، جائزة نازك الملائكة للإبداع النسوي في العراق 2013 ، جائزة أفرابيا للشباب الإفريقي في السودان 2016، وجائزة الإستحقاق للشعر في مهرجان الفنون في إيطاليا 2017. أسست صالون ثقافي «الفردوس» وترأسه حاليا، ولها إصداران شعريان: «فردوس الكلمات» و«القادم الوردي لي».
التقيناها في حوار يستعرض تجربتها الشعرية ويلقي الضوء من خلالها على المشهد الشعري التونسي.
■ متى وكيف راودك الشعر عن حرفك؟
□ لا أذكر كيف كانت بدايتي مع الشعر. في الحقيقة لا يمكن تحديد بداية معيّنة للشّعر. الشّعر يولد فينا نحن الشّعراء، يجري في عروقنا ويمتزج بدمنا، باختصار شديد يولد الشّاعر شاعرا بالفطرة. أمّا ما يأتي بعد ذلك فهو تشذيب للموهبة وممارسة لفعل الكتابة. إذا جاز لنا تحديد سنّ معيّنة لبداية الشعر فقد كانت بداياتي الأولى في سنّ العاشرة.. السنّ التي بدأ يتشكّل فيها إدراكي للأشياء وإحساسي بها بطريقة تختلف عمّن حولي من الأشخاص.. أحزن لموت قطّتي فأكتب.. أفرح بثوب جديد يشتريه لي والدي أو نزهة في أحضان الطبيعة فأكتب. وقتها لم أكن أعلم أنّ ما أكتبه شعر، لذلك لم أكن أحتفظ بكتاباتي وأغلبها ضاع واندثر إلا القليل الّذي تحتفظ به الذاكرة.
■ ماذا يعني لك الشعر كبعد ذاتي ووجودي؟
□ قلت في إحدى قصائدي «الشّعرُ مبتدأُ الطّريق وآخرُهْ/ يتآلفُ البُعدان حين نسافرُهْ» الشعر بالنسبة لي حياة. درب أحثّ فيه الخطى نحو الاكتمال الروحي. نحو تحقيق حلم العصافير ببناء عشها فوق السحب. لا أتصور حياتي بدون شعر. باختصار شديد، وبعيدا عن كل المبالغات، الشعر بالنسبة لي أكسجين وماء.
■ قال تي. أس. إليوت متحدثا عن صديق شقيقه: كتب لي توماس رسائل مثيرة للحماس ورفعت من معنوياتي كثيراً، كنت ممتناً لأنه منحني ذلك التشجيع الذي ساعدني في بداية مشواري. فمن شجع سُنية ودعم موهبتها؟
□ أنت هنا عزفت على الوتر الحساس. أعشق هذا الشاعر الرائع تي. أس. إليوت وأرضه اليباب. كما تعرفين أن تخصصي في الأدب الإنكليزي، جعلني أنهل من الشعر والرواية الإنكليزية بدون حاجة إلى ترجمة.. أذكر أنني في بداية دراستي للأدب الإنكليزي أغرمت جدا بالعديد من الشعراء، على رأسهم إليوت حتى أنني عرّبت بعض قصائده. أما بالنسبة لمن كان السبب في تشجيعي على الكتابة، فهو أستاذي الذي درّسني في الإعدادي، وأذكر اسمه امتنانا ومحبّة السيد محمد الجريجي.. هو أيضا فنان مسرحي، بالإضافة إلى كونه أستاذ اللغة العربية. أذكر أنه كان يلقبني بمولاتي الصغيرة. كنت كلّ حصّة لغة عربيّة أحضر قصيدة تتناسب والنصّ الّذي سندرسه، يومها في حصّة شرح النصوص. كان يشجعني بكلماته الجميلة ومعاملته الاستثنائية لي.. كان يلقبني أيضا بالمبدعة.. ثمّ تأتي في مرتبة ثانية عائلتي التي كانت ترى فيّ شيئا مميزا من خلال كتاباتي. كنت كلما كتبت قصيدة ألقيها على مسامع والديّ فيشجعانني.
■ كيف تنظرين لماهية مصطلح الكتابة النسوية أو النسائية وإشكاليته بين الرفض والقبول عند النقاد والأدباء؟
□ أولا أنا ضد هذا التصنيف الجندري للكتابة. الإبداع لا يعرف ذكرا أو أنثى. نحن نتعامل مع أثر أدبي وليس مع صاحبه. أعرف أن كل نص مرتبط بالضرورة بكاتبه لكن ليس إلى درجة تصنيفه من حيث الجنس. إن جاز التصنيف فمن حيث اللغة والإحساس الّذي يختلف بين الجنسين: الذكر والأنثى كذلك من خلال اختلاف الرؤية للأشياء. لاحظي أنّ من يرفض كتابة المرأة من الأدباء أو النقّاد لا يمتون بصلة إلى الأدب، ولا يفقهون معناه أصلا. كتابات المرأة تمسّ الواقع بدون قفازات. هي أقرب إلى الوجدان أكثر من كتابات الرجل. المرأة هذا الكائن الرهيف الحس، الذي يستطيع أن يهب الحياة لبشر لن تعجز عن خلق أجمل الكتابات، وكما تعلمين تاريخ الأدب النسوي زاخر بالتجارب الرائدة في الشعر والرواية وغيرهما. لا بدّ من تقبّل الأدب النسوي من طرف النقاد والأدباء. لا يكون الأدب أدبا إلا إذا كان متوازنا. الأدب النسوي والأدب الرجالي كلاهما يكمل أحدهما الآخر ويجب ألا نقع في فخّ الانفصام الإبداعي.
■ يقال إن ترجمة الشعر أشبه بتقطيع الألماس بمدية خشبية، من خلال تجربتك في الترجمة، هل تؤيدين هذه المقولة؟
□ أرى أن الترجمة خيانة للنص كما قيل عنها.. خاصة ترجمة الشعر التي أراها، ومن خلال تجربتي مع الترجمة، سواء من اللغة العربية إلى الإنكليزية، أو العكس ظلماً للنص الأصلي، فمهما حاول المترجم الحفاظ على جماليات النص من إيقاع وصور شعرية فإنه لا ينجح إلا نادرا. والنص المترجم قد ينجح في أن يوصل المعنى، ولكنه لا يستطيع الحفاظ على المبنى، كما جاء في النص الأصلي. والقصيدة ليست تركيبة لغوية فحسب، بل هي نسيج متكامل من الأحاسيس والمشاعر والدلالات والإيقاعات، لذلك نقلها من لغة إلى أخرى يكون محفوفا بالمخاطر.
■ كامرأة عربية مبدعة، كيف تقرأين واقع التلقي وعيوبه في مجتمعاتنا العربية؟
ـ العلاقة بين النص والمتلقي هي علاقة تكاملية، فحسب إمبرتو إيكو النص الأدبي لا يكون مكتملا إلا إذا التقى بالمتلقي، حتى تكتمل معالمه الإبداعية والجمالية. في مجتمعاتنا العربية لا يفتأ واقع التلقي يتغير بتغير الزمن وذلك نحو السلبي.. قبل ظهور وسائل الاتصال كان للنص الأدبي سطوة على المتلقي، حيث تكون العلاقة مباشرة وحميمية بين النص والمتلقي، لكن في عصر التكنولوجيا تطورت وسائل الإعلام، على حساب النص الأدبي الّذي فقد بريقه. كما أن المتلقي العربي جنح إلى السّهل دوما والسّريع في تلقي المعلومة.
■ في خضم الإعصارات التي مرت وتمر بها أوطاننا العربية، هل تعنى قصائدك بالحدث السياسي، بشكل مباشر أو غير مباشر؟
□ الشاعر مرآة واقعه. كل ما يجري من حوله يؤثر على حسه الإبداعي ويتراءى جليا في كتاباته. إذ كيف يتغافل الشاعر عن واقعه ويظلّ في برجه العاجي؟ ما نعيشه اليوم وتعيشه أوطاننا العربية من توتر سياسي يدفعنا بالضرورة إلى مقاومته كل من طرفه، والمبدع كما تعرفين سلاحه الكلمة التي تكون رصاصة غاشمة في وجه كل استبداد سياسي. كتبت قصائد في الشأن السياسي سيما وأن تونس أول قادح للربيع العربي كما كتبت قصائد للحلم والحب والأمل، وكلها تصب في الواقع الذي نعيشه. وحده الشاعر قادر على وصف الواقع وتجميله وإنبات أجنحة للحلم..
■ أين تكمن الحداثة الشعرية في نظرك؟
□ الحداثة الشعرية اختلفت مفاهيمها حسب النقاد، ولكن حسب وجهة نظري المتواضعة الحداثة هي الوعي بجماليات الكتابة الحديثة قبل كل شيء. وذلك لا يتم إلا إذا كنا واعين تمام الوعي بجماليات النص الكلاسيكي، شعرا كان أم نثرا، من حيث الصور والبناء.
■ لك تجربتك في افتتاح صالون ثقافي، كيف تقيمين التجربة، وكيف كان صداها في الوسط الثقافي التونسي؟
□ الصالون الثقافي كان حلما وتحقق. دوما كنت أُمني النفس بافتتاح مكان خاص بي أكتب فيه، وأجتمع فيه مع الأصدقاء المبدعين وأقوم فيه بأنشطة أدبية وفنية: مهرجانات ومعارض وتحقق الحلم رغم أنني مازلت في بداية المشوار، ولكن أعتبر أن أصعب الأمور بداياتها. تم افتتاح الصالون في شهر ديسمبر/كانون الأول 2016 وانطلق عمل الورشات به في مختلف الفنون، ثم تم تتويج العمل في مهرجان ثقافي وإبداعي في شهر أبريل/نيسان 2017 لاقى نجاحا وتميزا، حسبما تداولته الإذاعات والصحف والمواقع الاجتماعية. الصالون بدأ كبيرا حيث حضر المهرجان عدة دول عربية مثل سوريا والعراق والجزائر، كما كان للحضور التونسي تميز وثراء في التجارب وتنوع. أطمح أن يلقى الصالون صداه لدى وزارة الشؤون الثقافية من حيث الدعم المادي كي يستمرّ.
■ «القادم الوردي لي»، كان عنوان مجموعتك الشعرية الصادرة حديثا، والذي يدفعنا للتساؤل: هل ظل للتفاؤل مكان وسط كل هذا الدمار؟ وهل باستطاعة الشعر ترميم وجه العالم؟
□ «القادم الوردي لي» هو عنوان ثاني إصدار شعري لي. كتب في فترة صعبة وهي فترة ما يسمى بالربيع العربي، وما تبعها من توتر في الساحة العربية. قصدت به التفاؤل. والأمل وأردت أن تكون الكلمة «حمامة في وجوه القادمين من القبور». في كل الحقب التاريخية كان دور الفن بارزا في ترميم وجه العالم بأمارة أن المدمرين اضمحلوا وبقي الفنانون خلّدتهم أعمالهم. أليس الفن زهرة في وجه العدم؟
■ كيف تقرأين المشهد الشعر التونسي ؟
□ إنّ الباحث في المدوّنة الشعرية التونسية يلاحظ أنه ما فتئ يتطوّر، خاصّة في الفترة الأخيرة أو ما يسمى فترة الربيع العربي. نلاحظ بروزا لافتا لقصيدة النّثر، ونزوعا نحو التجريد والغموض. وقصيدة النثر شـــكلٌ فرض نفسه على المتقبّل والنقاد، بل نشأت حركات ومجموعات تدافع عنها. وكما تعرفين أنّ تعريف الشعر هو كلام موزون ومقفى، هو تعريف لا تعترف به الحركات الشعرية التي تناصر قصيدة النثر. كما أنّ هناك رجوعا لافتا أيضا للقصيدة العمودية التي ظلّت تحافظ على بنيتها الكلاسيكية بآليات جديدة للكتابة وصور مستحدثة.
(القدس العربي)