الجيل الجديد من التشكيليات المصريات: التجريب هو روح العمل الفني

محمد عبد الرحيم

هناك العديد من المعارض والاحتفاليات التشكيلية التي تقام في مصر على مدار العام، ولكن يبدو أن الاحتفاء يقتصر على الكم والتجارب المتكررة، التي لا تعني الكثير على مستوى القيمة إلا في ما ندر، ناهـــــيك عن الكثير من الأعمال التي تتراوح ما بين الكلاسيكية الشديدة أوالتقليد واستنساخ تجارب غربية بدون وعي، فقط لمجرد عمل «شو استعراضي» فارغ يوحي بالاختلاف والتميز، هذا على مستوى التجارب الفنية، ولكن يبدو الأمر أكثر قتامة في ما يحدث داخل الأكاديميات التي تقوم بتدريس الفنون الجميلة، فالأساتذة الأكاديميون يبدو معظمهم، وكأنه في عالم آخر، وقد توقف بهم الزمن عند مدارس تجاوزها الفن الآن، لكنهم لا يعتقدون إلا في ما يحيونه، بل يفرضونه على طلبتهم، وإلا ستكون العواقب وخيمة.
هنا نحاول سماع صوت فنانات تشكيليات من الجيل الجديد، هذا الجيل الذي يحاول أن يحيا الفن ويتحمّل نتائج اختياراته، التي في الغالب ضد السلطة المتوهمة إنها الأقوى، وكان التساؤل يدور حول «رؤيتهن لواقع التشكيل المصري الآن، وكيف يُقيّمن تجارب الأساتذة الأكاديميين مقارنة بأعمال الفنانين الشباب؟

الأمل في محاولات الجيل الجديد

بداية تقول الفنانة إيمان فكري بالنسبة لواقع التشكيل المصري الحالي، هناك تجارب متميزة لبعض الشباب من الجيل الجديد، يبدو هذا من بدايات مشروعات تخرجهم، من حيث الأسلوب والرؤية، وقد يستغرقهم هذا بعض الوقت، ثم يخرجون عنها، فيتأكد الأسلوب الفني في ما بعد، بحيث يمكن التعرف على هذا الفنان أو ذاك من خلال أسلوبه هذا. على الناحية الأخرى نجد مجموعة من الفنانين تسعى فقط إلى حُب الظهور، ذلك باختيارهم تشكيلاً غريباً وغير مفهوم، والغالب أن الفنان نفسه لا يعرف ولا يدرك ما يفعله، ويتهم الجمهور في النهاية بعدم الفهم أو التواصل مع إنتاجه الفني. ويصل الأمر إلى لجان التحكيم في صالون الشباب أو الصالون العام الذي ينعقد سنوياً على سبيل المثال، هذه اللجان بدورها تشارك في الكارثة ولو بشكل آخر، فيختارون العمل غير المفهوم ظناً منهم أنه حداثي أو ما بعد حداثي أو ما شابه من هذه المصطلحات ــ لا التيارات ــ التي يجهلونها وهم الغارقون في الكلاسيكية. فهناك أعمال نراها مثل فنون الأداء والتجهيز في الفراغ، أغلبها منقولة عن أعمال غربية، وبما أن لجان التحكيم يجهلونها، فهم لا يدرون أن هذه الأعمال مسروقة، وتهذيباً للفظ نقول (مُنتحلة)، فقط يختارون الغريب والجاهلين به، كمجسم كبير لحبة طماطم تعاني الوحدة، أو أن يجتلس أحد الأرض ويقوم بتخريط الملوخية أمام الجمهــــــور، وكأنه فعل فني خرافي. فهذه الأشكال من الفنون لم تتم دراستها في الكليات الفنية الأكاديمية، التي توقفت عند المدارس الفنية في القرن العشرين، أما التجارب الخارجة عن الأسلوب الأكاديمي فهي في الغالب فردية وتعتمد على موهبة وقدرات الفنان. وتضيف، لكن رغم ذلك هناك تجارب ذات قيمة فنية وفكرية تمت عن وعي، كتجربة الفنانة الراحلة آمال قناوي، يرجع ذلك إلى اشتغالها فترة طويلة على هذا الشكل الحداثي من الفن، بدون أن يكون مجرّد مُسايرة للموضة أو تقليد أو أمل في الشهرة.
أما بالنسبة للأساتذة من الأكاديميين، فأغلبهم ــ عدا قِلة ــ يعمل من خلال فكرة واحدة وأسلوب أكاديمي صرف، بل يفرضونه على الطلاب، فهم لا يرون الصحيح إلا من خلال وجهة نظرهم فقط، ضاربين بقاعدة «لا خطأ ولا صواب في الفن» عرض الحائط. ومن المفترض لمواكبة هذه التيارات والحركات الفنية أن يقوم الأساتذة بتدريس هذا الشكل من الفنون وفلسفاتها في الكليات الفنية، ولكننا سنصبح أمام أحجية من قبيل البيضة ولّا الفرخة، فكيف سيدرّسون هذه الفنون وهم لا يعترفون بها من الأساس. فالأمل في الجيل الجديد ومحاولاته، رغم ما يواجهه من ظروف اقتصادية واجتماعية وتعليمية غاية في الصعوبة.

ما بين الصدق الفني والافتعال

وترى الفنانة ضحى مصطفى أنه حينما نتصدى لمهمة إبداء الرأي في بعض قضايا الفن التشكيلي المصري المعاصر، بل أيضاً تحــــديد رأي بعينه عن المنتج الفني لجيل الشباب من الفنانين التشكيليين الذي أنتمي له ومقارنته بأعمال الأساتذة الكبار من الأكاديميين، فإن الحاجة تكون ماسة إلى السعي الحثيث لتوخي الدقة والحياد، تزخر المحافل الفنية الكبرى كل عام كصالون الشباب ومعرض الطلائع وغيرها بالجديد والمواكب للحركات الفنية العالمية، وفي رأيي يتجه بعض شباب الفنانين إلى افتعال الغرابة وتضمين رموز وأفكار لا علاقة لها بمشروعهم الفني أو أفكارهم ورؤاهم الفنية، ولكن على جانب آخر تُظهر تلك المسابقات الفنية الكُبرى تجارب شابة محملة بالقضايا الذاتية الخالصة، ويمكننا بتتبع أعمال تلك الفئة من الفنانين الشباب والاقتراب من تجاربهم الشخصية والفنية تلمس دلالات أصالة منتجهم الفني.
أما عن أعمال الأساتذة الأكاديميين فإذا استثنينا أعمال هؤلاء الأساتذة التي نفذت خصيصاً في معارض خاصة أقامها الفنان بغرض استيفاء شروط بلوغ بعض الدرجات التي تقتضيها الوظيفة، أو المعارض ذات الموضوع المحدد وفقاً لتوجهات الدولة المصرية أو مسؤولي وزارة الثقافة، فإن الكثير من أعمال الأساتذة تحمل تجربة خاصة ناضجة متكاملة الأركان، وهو أمر طبيعي تفرضه كثرة التجارب والمشاركات في المحافل المحلية والدولية. وأرى إن صحت المقارنة أن أعمال بعض الفـــنانين الشباب لا تقل في الأهمية أو القدرة على التعبير عن أعمال أساتذتهم، وأنها تتسم بالحرية والجرأة والتجريب، أما أعمال الأساتذة فتتميز بالإجادة والتمكن من التعبير بطابع مميز يميز كل أستاذ عن غيره، حتى أننا في كثير من الأحيان لا نحتاج إلى أن نقرأ إمضاء الفنان، فأعمال غالبيتهم لا تخطئها العين. استناداً إلى ذلك كله أرى أن الفريقين المقصودين بالمقارنة كلاهما يؤدي دورة ويكمل دور الآخر، ولا غنى لأحدهما وبهما معاً نستطيع أن نحلل ونتابع وندرس أحوال الوسط التشكيلي المصري.

قيمة العمل الفني

من ناحية أخرى تقول الفنانة سارة عوف، لا أظن أن الفن يمكنه أن يكون موضة، مهما سعينا بكل جهدنا أن يصبح كذلك، فلكل منا معاناته ومشكلاته ورؤاه التي لا يمكن له أن يمحيها من ريشته، حتى إن سعى إلى فعل ذلك عن عمد. نعم قد يكون لكل منطقة من العالم فترات تضمحل فيها قدرة البشر عن التعبير بكل أشكاله، سواء كان فنا تشكيليا أو أدبا أو مسرحا، ولكن تلك القدرة أبداً لا تمحى ولن يمكن أن تمحى، هي فقط تتغير وتميل للتقليد أو الاستلهام من الثقافات الأكثر قوة، مع وجود فلتات فنية لا تندرج تحت كل هذه المسببات في ما يبدو، لضعف الحركة الإبداعية. أما في ما يخص المقارنه بين الفنانين الأكاديميين والشباب، فلا تهمني كثيراً تلك المقارنة، لأنني رأيت في مصر الكثير من الأكاديميين المتحررين فكرياً للغاية، الذين لم تحكمهم أي قواعد أكاديمية والعكس صحيح، رأيت من الشباب الكثير ممن يقيدون أنفسهم بالقواعد حد الاختناق، وبدا لي أن هذا القياس أحياناً يأتي ظالماً للطرفين، فالأهم هو ما يقدمه كل فنان على حدة، وقيمة أعماله في النهاية.

الفن كتجربة إنسانية

أما الفنانة زينب عادل فترى أن واقع التشكيل المصري الآن متمرد على العادات والتقاليد الفنية الموروثة، وفيه الكثير من كسر للقيود والحرية والتعبير عن روح وذات الفنان، بكل ما تحمله من أحلام وأسرار ومساوئ. بمعنى أنها تجربة إنسانية في المقام الأول، أما في ما يخص الأساتذة الأكاديميين، فقد أصبحتُ أشعر بالكثير من التغيير عن السابق، فهم استسلموا أكثر لتفكير الفنانين الشباب، لأن الجيل الجديد أصبح الآن أكثر عناداً وإصراراً على تحقيق أحلامه وفي التعبير عن آرائه من خلال الفن بمختلف أشكاله. فأصبحت أعمال كل منهما تحمل سمات الحرية والانطلاق من أسر التقليدية إلى حدٍ ما. إلا أن هذا لا ينفي وجود أساتذة يحملون الفكر التقليدي القديم، بل يفرضونه فرضاً كأسلوب وحيد صحيح من وجهة نظرهم على الفن والفنانين.

التجريب الفني وبيروقراطية الثقافة

ونختتم برأي الفنانة إيمان حسين التي ترى أنه من الصعب فصل الواقع التشكيلي المصري عن الواقع الحياتي، فهناك بالطبع محاولات كثيرة جيدة من قِبل الفنانين المصريين، ولكن الجمود والبيروقراطية المسيطرة على الواقع الذي نعيش فيه لا تسمح بظهور مَن يستحق، ولا أقصد وأقصر البيروقراطية هنا على مؤسسات الدولة فقط، ولكن على الشكل العام الذي يتبناه القائمون على الحركة التشكيلية حتى في المؤسسات الثقافية المستقلة. أما على مستوى الفنان نفسه ورؤيته ومعالجته البصرية، فنجد أن هناك نموذجا أول يحاول الاطلاع على القديم والحديث، محاولاً إدراك ذاته في ظل ظروفه المحيطة، وأن يخلق شكلاً نابعاً من تلك المعطيات على مستوى بصري ناجح. بينما يوجد نموذج آخر يبحث دوماً عن المعالجة المضمونة، التي سبق أن اختبرت قبله من قِبل المتلقي، سواء المتخصص منهم والعام. وقد نجد بعض الأعمال المُقلدة أو غير الأصلية، لكنها تبدو بمستوى جيد تنفيذياً من الناحية البصرية. إلا أن الأمر لا يخلو من الخلط بين النموذجين على مستوى الفنان الواحد، بمعنى أنه في رحلة بحثه عن أسلوبه الشخصي والاطلاع على التجارب البصرية المختلفة، يتم إنتاجه لبعض الأعمال التي تشبه مَن سبقه في المجال، ويمكن معرفة هذا الفارق عند مراجعة أعمال الفنان نفسه، وسوف نرى ذلك بشكل أوضح. واللافت أن هناك نموذج ثالث عجيب نوعا ما، ينتمي إلى النوع الأول المطلع الذي يحاول خلق رؤية بصرية خاصة به، لكن إذا كُلف بتمثيل مصر في الحركة التشكيلية العالمية يحدث له نوع من الجمود الفكري، ويلجأ إلى حلول بصرية دون مستواه الشخصي. وتضيف حسين، وأعتقد أن هذا يرجع إلى عدم الإلمام أو الفهم بشكل جيد لمفاهيم واتجاهات الفنون البصرية الحديثة، لأن جزءا أساسيا من استيعاب هذه المفاهيم أن تكون جزءا من معالجات الفنان الشخصية وليست شيئا حديثا في المطلق. أما بالنسبة إلى تجارب الأساتذة الأكاديميين فلا أعتقد أنهم يختلفون كثيراً عن الأنماط السابق ذكرها. الاختلاف الوحيد يكمن في مَن يحاول خلق رؤية بصرية خاصة به منهم، وهذا يستدعي الكثير من الوقت، وبسبب طبيعة عمله كأستاذ أكاديمي سيؤثر عليه في مسيرته بسبب قلة التجريب، فالتجريب هو أساس خلق رؤية بصرية مختلفة، وهو ما ينطبق على جميع ممارسي الفنون البصرية، المبدع منهم والحِرفي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى