واحد من الأفلام الخمسة المرممة المعروضة في فرنسا : «أندريه روبليف» للسوفييتي تاركوفسكي: سيرة فنان في عالم بربري

سليم البيك

يعد فيلم «اندريه روبليف» لتاركوفسكي، الفيلم الثالث من الأفلام الخمسة التي تم ترميمها لتُعرض حالياً في الصالات الفرنسية، والأفلام الخمسة المرمّمة ينقصها الفيلمان اللذان أخرجهما المخرج السوفييتي، في منفاه: «نوستالجيا» و «ساكريفايس»، على أن يظهرا في الصالات الفرنسية مرمّمين كذلك، هذا الخريف.
ويصنف هذا الفيلم من بين الأفضل الافلام عالمياً، بمرتبة 27 في تصنيف مجلة «سايت آند ساوند» لأفضل 100 فيلم في التاريخ، ومرتبة 28 لمجلة «تيليراما» الفرنسية.
الفيلم المسيحي/الأرثوذكسي، بأجوائه وقصصه، اتّخذ عنوانه من اسم الرسّام الروسي أندريه روبليف، كما أنّه اتّخذ عنواناً آخر، أقرب ليكون مسيحياً مع تقديم للرسّام كقدّيس: «الشّغف حسب أندريه»، دامجاً الفيلمُ بين الإيمان والحب، في فيلم سيَري للرسّام الرّوسي في أوائل القرن الخامس عشر.
الفيلم الذي أُنتج عام 1966، ليس «بيوغرافيا» كما أنه ليس تاريخياً ولا دينياً بمعناه الأوّل، بل هو قصصٌ مستقطعة لشخصية اسمها أندريه، هو الرّسام ذاته، إنّما كشخصية حكائية، دراميّة، ينقلها الفيلم على شكل بورتريهات، منفصلة، لكل منها عنوان خاص بها، تنقل كلّها مجتمعة، رحلة الرسّام الذي أُوفد إلى موسكو كي يرسم جداريّة «الحُكم الأخير» للإيطالي مايكل أنجلو في إحدى الكاتدرائيات هناك، وإن لم نره مرّة واحدة يرسم، في الفيلم.
أندريه روبليف هو أحد أبرز الرسامين الروس في القرون الوسطى، وُلد في ستينيات القرن الرابع عشر، وتوفي في عشرينيات القرن التالي، وهو إلى اليوم أحد أبرز رسّامي الأيقونات والجداريات الأورثوذكسية في روسيا، وهذا واحد من الأسباب الأساسية التي جعلت الفيلم مُحارباً في الاتحاد السوفييتي، فإضافة إلى بعده الديني – الإيمان بمعناه العام ثيمة أساسية فيه- في الفيلم مواضيع كالحريات الفنّية والقمع البوليسي، فقد مُنع عرضه في الاتحاد السوفييتي وكان للفيلم، بالتالي، عدّة نسخ. إلا أنه شارك في مهرجان كان السينمائي عام 1969 ونال جائزة النقّاد العالمية (FIPRESCI)، وبعدها لم يحظَ بتوزيع جيّد عالمياً، اختفى تقريباً.
القصص/البورتريهات المتعددة الفيلم، تقدّم توصيفاً لروبليف من خلال الظرف التاريخي آنذاك، أو توصيفاً لهذا الظرف من خلال الرسّام ورحلته وعلاقاته بمن يلتقيه أثناءها، والشخصيات قليلة في هذا الفيلم الطويل نسبياً، إذ تقارب مدته ثلاث ساعات ونصف الساعة. وهو من الأفلام التي استطاعت أن تجمع بين النقّاد والجماهير، وليس هذا سهلاً، إنّما، لاحتوائه على قصص فيها أحداث أكثر وتأمّل أقل مما تعوّدنا عليه في أفلام تاركوفسكي، كان فيلماً أكثر تقبّلاً جماهيرياً مقارنة بغيره كـ «ستوكر» أو «المرآة» مثلاً.
يبدأ الفيلم بمقدّمة (برولوغ) عن تجربة الطيران بمنطاد، لا علاقة مباشرة لها بما سنراه من قصص روبليف، ثم تتوالى القصص التي تبدأ من اختيار الرسّام للرحيل إلى موسكو وانتهاء بجرس كنيسة عملاق، مروراً بهجوم للتتار واحتلال القرى الروسية وبطقوس دينيّة إيروتيكيّة غرائبية وبمجاعة وفقر، وغيرها مما يمكن أن يقدّم تصوّراً عن الزمان والمكان اللذين يصوّرهما الفيلم، وذلك دون سرد مباشر للأحداث، أو لما يمر به الرسّام، وهو ما نجده في كتاب تاركوفسكي «النحت في الزمن» إذ يقول: «في السينما من المهم ألا نشرح، بل أن نتصرّف حسب مشاعر المُشاهد، وهذه المشاعر التي تمّ إيقاظها هي التي تحفّزه على الفكرة».
يطرح الفيلم أفكاراً وأسئلة فلسفية وجمالية من خلال قصصه: كيف نكون فنّانين في عالم بربري؟ كيف نهزم البؤس بالإبداع؟ ومن خلال 24 عاماً من حياة روبليف، يقدّم تاركوفسكي، بفنّية سينمائية عالية، اقتراحات إجاباتٍ على هذه الأسئلة وغيرها متعلّقة بالإنسانية التي نواجه بها وحشية العالم، سلوك وكلام روبليف مثال عليها.
أما القصص/البورتريهات، فهي «المهرّج» و«ثيوفانيس اليوناني» و«الشغف حسب أندريه» و«الوليمة» و«الحكم الأخير» و«الغارة» و«السكون» و«الجرس»، معطياً المخرجُ من خلالها أسلوباً استثنائياً في تصوير السيَر الذاتية سينمائياً، مقدّماً إياها كنظرة ذاتية وسرد متقطّع وليس كعرض كرونولوجيّ لحياة شخصية عامة، مركّزاً على فرديّة الفنّان وهو هنا روبليف، وهو كذلك، تماماً، تاركوفسكي.
الفيلم المصوّر بالأبيض والأسود، صُوّرت مَشاهده الأخيرة بالألوان، وكانت صورا معظمها مقرّب، لجداريات أورثوذكسية رسمها روبليف، بانت عليها آثار الزمن. الفيلم الثاني للمخرج السوفييتي هو آخر فيلميه المصوّرين بالأبيض والأسود، الآخر هو «طفولة إيفان»، أفلامه التالية أتت كلّها ملوّنة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى