«المريع» لميشيل أزانافيسيوس: فيلم يسيء لأبرز مخرج فرنسي

سليم البيك
«لو ردوتابل» ومعناه الخطير/المريع/الرهيب، هو الفيلم المنتظر أكثر من غيره، منذ نزل أوّل خبر عنه، ثم ملصقه ثم نزوله للصالات الفرنسية قبل أيام، لنعرف من الخبر الأوّل أن السينمائي الفرنسي جان لوك غودار، وهو أعظم مخرج سينمائي حيّ يُرزق، أنّه سيكون الشخصية الرئيسية في الفيلم، بمعنى أن الفيلم سيرة ذاتية له (بيوبيك).
عادة ما تكون الأفلام السيرذاتيّة لشخصيات راحلة، أمّا غودار، لعظمة منجزه السينمائي، فيستحقّ فعلاً فيلماً روائياً يتناول جزءاً من حياته، إنّما ليس هذا الفيلم.
الفيلم الذي أخرجه أزانافيسيوس الذي لم يُعرف بأنّه صانع أفلام جيّدة، باستثناء فيلمه الذي شهره «الفنّان»، 2011، حوّل مذكّرات زوجة غودار السابقة آن ويازمسكي، إلى هذا الفيلم، فكان سقطة ستُذكر طويلاً في سيرة هذا المخرج الفيلمية، لأسباب سنأتي عليها. قبل ذلك من المفيد الإشارة إلى ما كان جيّداً في الفيلم الذي شارك في مهرجان كان الأخير وخرج منه خالي الوفاض.
اللقطات اللافتة في الفيلم هي تلك التي استوحاها المخرج من أفلام سابقة لغودار: البطلة مستلقية على بطنها بجسد عار، من فيلم «لو ميبري»، 1963، شكْل البطلة نفسه، حتى تسريحتها ونعومة ملامحها (ستايسي مارتن)، أتى شبيهاً ببطلة غودار في فيلم «ماسكولان فيمينان» 1966، وهي الجميلة شانتال غويا، وليس شبيهاً بتلك التي أدّت بطولة فيلم «لا شينواز» 1967، التي اعتمد سيناريو الفيلم اليوم على مذكراتها، إضافة إلى مشاهد عدّة أخرى منها التصوير مع إضاءات حمراء وزرقاء المأخوذة من «بييرو لو فو»، 1965، هذه المشاهد هي الأجمل في فيلم أزانافيسيوس، وهي نسخ عن مشاهد من أفلام غودار المصنّفة من بين الأفضل في تاريخ السينما في العالم. أمر آخر يمكن أن يكون جيّداً هنا هو أداء الفرنسي لوي غاريل، الذي تقمّص شخصية غودار بشكل لافت، بل استطاع إيصال إحدى ميّزات غودار وهي نكاته الذكية وأسلوبه في الحديث وإن أتى مرات كثيرة بشكل كاريكاتيري.
أمّا الفيلم (Le Redoutable)، فهو إساءة لمخرجه قبل أن يكون إساءة لغودار، وقد اعتمد على مذكّرات زوجته السابقة آن ويازمسكي التي أدّت بطولة «لا شينواز» وغيره من أفلام غودار، التي انفضّت علاقتها به بشكل غير ودّي بعد زواج امتدّ من 1967 إلى 1979، فكتبت «روايتها» لما حصل (وهي روائية بالمناسبة)، حكت عن كيف ترى غودار، وهي نظرة ذاتية تماماً، خاصة بالعلاقة معها، فالفيلم ركّز على علاقة غودار بها ومآل العلاقة التي كان هو، حسب روايتها دائماً، المذنب والملام فيها، وهذا ما شاهدناه في الفيلم الذي كان غودار فيه فظاً وكريهاً ليس معها وحسب، بل مع الجميع، إذ لم يكن في مشهد واحد (باستثناء الدقائق الأولى من الفيلم) شخصاً طيّباً، بل غليظا ونزقا، مع زوجته، مع الطلاب الثائرين، مع أصدقائه ورفاقه وزملائه، مع المعجبين، مع الغرباء أينما كانوا.
يمكن تقبّل حكاية كهذه في فيلم روائي بحكاية يتم تأليفها هي وشخصياتها، بفيلم يُظهر معاناة البطلة مع حبيبها الفنان صعب المِراس، لكن ليس في فيلم سيرذاتي يصوّر فناناً بعظمة غودار، الذي أخرج أوّل أفلامه الطويلة عام 1960 وظلّ حتى اليوم، بعد 47 عاماً يواصل الإخراج – تم مؤخراً الإعلان عن فيلم له سيخرج إلى الصالات العام المقبل- ومرّ بمراحل فنية واجتماعية عديدة.
لا يمكن تقبّل فيلم كهذا، يصوّر بضعة أشهر من حياة غودار، في عام 1968، إثر نزول فيلمه «لا شينواز» إلى الصالات، ولا يغفل الفيلم اليوم التركيز كذلك على الآراء المتعددة والسلبية تجاهه آنذاك، وهي مرحلة كان فيها ثورياً ماوياً منخرطاً في الانتفاضات الشبابية في فرنسا مع ثورة الطلاب في 1968، وكان في علاقة متوترة مع بطلة فيلمه المذكور، وزوجته، وأخيراً يصوّرها من وجهة نظرها هي، التي كتبتها وتحكي فيها عن غودار كما هي تراه، فمن الطبيعي أن يكون الرّجل بهذا السوء في الكتاب وتالياً في الفيلم.
الشخصية الكاريزماتية لغودار لا بد ستَخرج له بأفلام عديدة ينجزها آخرون، وثائقية وروائية. أفلام كهذه تخرج عادة إثر رحيل صاحب السيرة، كنوع من الاستعادة والتكريم، ليس فيلمنا هذا، طبعاً، من بينها. لكن للحقيقة نذكر أنّ بدايات الفيلم كانت جيّدة، كانت ذات مصداقية، فأكثر ما يمكن تصديقه فيه هو إحدى العبارات الباكرة جداً في الفيلم التي تقول بأنّه هو، أي غودار، «الموجة الجديدة»، وهذه الموجة الفرنسية هي إحدى العلامات الأبرز في السينما الفنية في العالم، والأكثر تأثيراً.
الفيلم الذي بدا تافهاً للعارفين بالسينما وغودار، اضطرّ أن يملأ فواصله بمسائل يمكن أن يتضمنها فيلم لإضحاك المراهقين، وليس فيلما سيرذاتي، كأن يقع غودار أرضاً وتتحطم نظاراته ثلاث مرات، ثم يتم ذكر أنّها تحطمت، لمرة رابعة، في الراديو. لمَ هذا الإسفاف؟ لأن زوجته السابقة كتبته؟ ليُضحك المُشاهد؟ لكن من يذهب ليشاهد الفيلم الذي قدّم نفسه كفيلم سيرذاتي عن غودار لا تضحكه عادة مشاهد تافهة كهذه: يقع وتتحطم نظاراته! وبعد؟
هنالك مشهد آخر يتحدّث فيه غودار عن فلسطين. تقريباً في كل مقابلة لغودار أتى فيها على حديث سياسي، يذكر فلسطين والفلسطينيين، ومعروف أنّ فلسطين حاضرة في عدة أفلام له، حديثه عنها واع وثابت وهادئ وجريء. أمّا ما أظهره الفيلم فكان حديثاً متوتراً مخلخَلاً مفتعَلاً، وكذلك فإن مُشاهدي الفيلم يعرفون أنّ ما يظهره الفيلم عن غودار في حديثه عن فلسطين أو عن غيرها، ليس هو ما نشاهده فعلاً في مقابلاته الواقعية.
الفيلم يصوّر غودار عام 1968، أي بعدما كان قد تكرّس كأحد أهم المخرجين في العالم آنذاك، بعد أفلام كـ«أ بو دو سوفل»، 1960، و«أون فام إي أون فام»، 1961، و«فيفر سا في»، 1962، و«باند أ بار»، 1964، و«ألفافيل»، 1965، إضافة إلى ما ذُكر أعلاه وغيرها. لا نقول بأن الفيلم لم يكن مقنعاً في تصوير غودار، بل كان مقنعاً تماماً إنّما في غاية الإساءة لغودار، ولأنّ محبي السينما هم غالباً من محبي غودار، إضافة إلى أن الفيلم مفضوح وفج وفاقد لمصداقيته، لم ينل تقييمات جيّدة في الصحافة الفرنسية.
(القدس العربي)