فيلم «تشرشل» للأسترالي جوناثان تبليتسكي: السياسي المثقف في مواجهة دُمى الحروب

عبدالله الساورة

يعيد المخرج الأسترالي جوناثان تبليتسكي في فيلم «تشرشل» رسم اللحظات الفارقة في تطور لحظات الحرب العالمية الثانية وموقف «ونستون تشرشل» من الحرب والخطة التي أعدها بشكل جيد وتشبت بها، في حين رفضها الحلفاء وعارضتها زوجته وأقرب المقربين إليه. تشرشل ليس وجها جديدا أو موضوعا جديدا في السينما، فمنذ 1951 حضرت صورته في العديد من الأفلام الروائية والوثائقية والمسلسلات إلى يومنا هذا.

الصفعة

المثقف والصحافي والخطيب المفوّه ورئيس الوزراء الذي لا يكف عن التدخين ويتكلم بصوت جهوري ويفكر كما ينطق ومنسجم تماما مع شخصيته وحركاته، يتعرض إلى صفعة قوية من طرف زوجته، الصفعة ليست صفعة عادية، ولكنها صفعة حلفاء ومقربين، وهو الرجل الذي تجاوز الثمانين من العمر. الصفعة تعبير عن الحالة النفسية الصعبة والعزلة التي أضحى يتخبط فيها وينستون تشرشل من تقديم خطته «أوفرلورد» لمحاربة الألمان. وقع الصفعة أكثر من التفكير في مجريات الحرب وقد مرت ثلاث سنين على بدايتها. يدخل تشرشل في حالة من معاقرة الخمر والإصرار بكل الطرق، إن خطته يمكن أن تقود إلى نجاح الحلفاء في صد النازية وفي صد تقدم هتلر.

البحر والحرب

يبدأ الفيلم بمشهد تشرشل وهو ينظر إلى البحر والأمواج كلها دماء عام 1943، حالة البحر وهو ملطخ بالدماء توحي بما آلت إليه أوضاع الحرب العالمية الثانية من دمار وتخريب وقتلى وجرحى. يرمي تشرشل قبعته في البحر، ويبدأ في التفكير في إيجاد وسيلة لوقف مجازر الدم. تتعدد مشاهد البحر كدلالة على الفرار الاضطراري من لعنات المكاتب واللقاءات والأسفار الطويلة التي يقضيها تشرشل متنقلا ومتحملا لها في سيارته الصغيرة. يعيد البحر رسم صورة الحرب وأهوالها، بدون أن يظهر ولو مشهدا واحدا للحرب، والتي تبقى في خلفية الأحداث، رغم أنها حاضرة في التفاوضات بين الملك وروزفلت وجنرالات الإنكليز مع تشرشل وسير هذه المفاوضات بإقناعهم بخطة تشرشل. يهرب الفيلم نحو البحر لينفتح على مكان بانورامي يوحي لوينستون تشرشل بما الذي يمكن أن يفعله في إقناع الآخرين.

لعبة الإقناع

تتصاعد وتيرة الأحداث ويُظهر أقرب المقربين إلى تشرشل بأن خطته غير مقبولة وغير منطقية، وهي انتحار جماعي لجيوش الحلفاء، ويعمد تشرشل إلى شرحها إلى الرئيس إيزنهاور وإلى كبار الجنرالات وإلى زوجته وإلى المشتغلين معه في مكتبه، ويتلقى جواب الرفض، وإن ما يحاول القيام به هو من العبث، لكنه يصر بشكل كبير ويستطيع أن يقنعهم الواحد تلو الآخر ويحوز إعجابهم وتقديرهم بقدرته على إيجاد الحلول والمخارج المتاحة وحكمته في تصيد أخطاء هتلر، مرددا «لا تستسلم ابداً ابداً ابداً ابدا».

تشرشل/كوكس

يحمل الممثل العالمي بريان كوكس الشيء الكثير من شخصية وينستون تشرشل، بريان كوكس بجثته الضخمة وصوته الجهوري وحركته البطيئة، حينما يكون في حالة ثمالة أو استرخاء، وخفته وهو يفاوض ويسرع في الخطى لقضاء مآربه، بل قسماته وارتجاف أصابعه وعصاه التي يلوح بها في كل حين، نظرات تشرشل وصوته وإيماءاته وقدرة تماهي الممثل بريان كوكس مع الشخصية التي يؤديها، حتى يعتقد البعض أننا أمام تشرشل نفسه في مذكراته وفي كتاباته. يرصد الفيلم خلال سنتين دأب تشرشل في ذهابه وإيابه وفي نظراته وفي تأمله وفي مشيته وفي لباسه لمعطفه الطويل، الذي يلف جثته الضخمة وفي حركاته التي يعيدها وفي دخان السيجار الذي لا يكاد يفارقه ليلا أو نهارا، وهو يبلغ من العمر عتيا. قدرة المخرج الأسترالي على اختيار الممثل بريان كوكس، الذي طغى على حضور باقي الممثلين، حتى غدت زوجته ميراندا رتشاردسون ومساعده جون سلاتيري سوى ظلال لما يقول وما يفعل.

لماذا تشرشل؟

في ظل عولمة قاتلة وأشباه للزعماء، وتحولات في مسارات الألفية الثالثة، وتخييم هاجس الحروب في أكثر من منطقة في العالم يستدعي المخرج شخصية وينستون تشرشل. استحضار هذه الشخصية في هذا الوقت الراهن هو تعبير عن حال رجال الساسة وعدم قدرتهم في قيادة العالم كأشباه للرجال وللزعماء والدمى السياسية التي تتلاعب بمصائر الأرواح وتزج بالملايين في ويلات الحروب ونيرانها. يعيد الفيلم منح النموذج للرجل القادر على التفكير في أهوال الحروب وله القدرة والحكمة والاتزان والإصرار الكبير في تتبع خطته التي قادت إلى إنهاء الحرب كمثقف كبير.

الصِبية وعلامة النصر

يغوص الفيلم في الحالة النفسية والصراعات التي خاضها تشرشل وهو يكتب جزءا من السيرة العامة لرئيس الوزراء البريطاني.. يظهر مشهد صغـــــير شخصية تشرشل، فنراه وهو عائد من المفاوضات مع إيزنهاور وجنرالات الحرب، إذ تتوقف سيارته في زقاق ضيق ببطء أمام صبية يلعبون ويشيرون بعلامة النصر لتشرشل، مشهد يوقظ في الرجل فكرة المقاومة عن جنود ضحوا بكل شيء دفاعا عن المملكة المتحدة، يجيبهم الرجل بعلامة نصر مماثلة، ولكن الصورة التي ترتسم في العقل والقلب .. العزيمة والإصرار وتبني خيار الهجوم والدفاع عن النفس.

من سيرة الحروب

لا يحاول المخرج كتابة سيرة ذاتية كاملة، بل يحاول أن يرسم لحظة وموقفا تاريخيا مهما من تاريخ العالم، وهو يخوض أكبر حروبه التدميرية. الفيلم تعبير عن موقف رجل صارع من أجل مبادئه سنتين كاملتين حتى توقفت الحرب. والفيلم تعبير عن لحظة جوهرية في حياة أوروبا والعالم، وهو يشهد تهاوي العالم في حمامات الدم ويتصدى لها وينستون تشرشل بحكمته وقدرته البلاغية والخطابية، ونظرته العميقة من خلال تجربته الطويلة. قدرة المخرج أنه ينأى عن كتابة سيرة ذاتية كاملة، ولكنه يكتب موقفين من الحرب: الحرب العالمية الثانية والحروب المدمرة في سنة 2017 في كل من العراق واليمن وليبيا وسوريا، وهي حروب بالتفويض والإنابة، وحروب المصالح والشركات المتعددة الجنسيات التي تبيع الموت لتجني الأرباح. يقتنص المخرج بذكائه موقفا تاريخيا مزدوجا لشخصية قوية تمت معارضته ومحاولة قتل خطته في المهد من قِبل تجار الحرب، ولكن تشرشل استطاع أن يتغلب على المصاعب وعلى الإكراهات التي اعترضت سبيله.

التصالح مع الذات

في المشهد الأخير من الفيلم قبالة البحر وتشرشل يتأمل ويستمتع بنسمات البحر، تتحدث زوجته إليه قليلا وتعانقه في إيحاء لطلب السماح/العفو عن الصفعة وعن عدم قدرتها لمجاراة حكمة الرجل ودهائه في إنهاء الحرب. تذهب زوجته وكعادة يكررها يدخن السيجار ويسير وهو يداعب قبعته بعصاه وينظر للأمواج وهي في حالة صفاء، تعبيرا عن وقف الحرب ووقف الدماء والأشلاء. بين مشهد افتتاح الفيلم ونهايته يجد تشرشل سكينته وقدرته التأملية على العودة إلى الرجل المتزن، المثقف والقادر على استيعاب أسباب الحرب والتفكير في طريقة وخطة بديلة لإنهائها. عظمة الزعماء في القدرة على إبداع السلام، وليس في إشعال فتيل الحروب وإيقاظ نيران الكراهية والعنصرية والتطرف الأعمى. فلا غرابة أن يردد تشرشل عبارته الشهيرة: «إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل، هذه ليست نهاية المطاف، ولا حتى بداية النهاية، لكنها ربما، نهاية البداية!».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى