رواية «مطارح» للكاتبة السورية سحر ملص بين الواقعي التاريخي والأسطوري الخرافي

نضال القاسم

سحر ملص قاصة وروائية، دخلت عالم الرواية من باب القصة القصيرة، وفي روايتها الأخيرة «مطارح»، نجد الكثير من شروط الرواية التاريخية، التي يمتزج فيها الصدق التاريخي بالفني من ناحية، ويختلط فيها الواقع بالخيال، كما تعكس قدر كبير من المعرفة التاريخية، التي ميزت المؤلفة لاسيما في الفترة التاريخية التي اختارتها لعملها الفني.
قدمت ملص رواية تزاوج بين الواقعي التاريخي والأسطوري. رواية واقعية تدور حبكتها السردية حول المقدّس والمدنّس في الحب والدين والجنس والسياسة، وعدة عوامل تتمحور بين التاريخ والأسطورة، وبين الحياة اليومية العادية وحياة الدراويش في حلقات الذكر.

الوقائع التاريخية والصياغة الفنية

منذ البداية نلاحظ أن المؤلفة مزجت بين الحقائق التاريخية، السياسية والاجتماعية، التي التزمت بها بدقة شديدة، والصياغة الفنية لروايتها بشكل سلس، حيث تبدأ الرواية خيوطها الأولى من خلال مشهدها الافتتاحي في مطلع الفصل «الشيخ درويش 1912» بالإشارة إلى حادثة انتحار زوجة الشيخ درويش الزهايري، التي أقدمت على قتل نفسها والجنين في بطنها. «لن أدفنها في التراب… أقسم بذلك، ولا حتى سأقوم على غسلها أو تكفينها بل سأتركها تتعفن، أو لتأكلها الغربان وينخر الدود جسدها وهي ملقاة على وجه الأرض فتكون عبرة للأخريات، قال ذلك وهو يرغي ويزبد.. يضرب كفاً بكف…تنتفخ أوداجه، تعلو قامته القصيرة ثم تهبط، يزداد حجمه وهو يمد ذراعيه ملتفاً بعباءته مثل نسر ثم يعدل طربوشه وينظر في المرآة يكاد يحطم صورته التي ظهرت مشوهة بسبب شرخ فيها، راح يحدث نفسه مثل مجنون ويقول أنا درويش الزهايري الذي قضى حياته في الزهد والعبادة زوجتي تقتل نفسها؟ أين إيمانها بالله وصلاتها؟ كيف فعلت ذلك وأنا الذي حذّرتها مراراً من أن تُقدم على فعلتها، أستغفر الله العظيم.. كيف ستلقى وجه ربها وقد قتلت نفسها والجنين الذي في بطنها؟». بعد حادثة انتحار زوجته الأولى واصل الشيخ درويش الزهايري حياته من جديد، فسرعان ما تزوج من أخرى مواصلاً حياة الزهد والتعبد، لكنّه فوجئ بتصرفات ابنه وليد وعصيانه وعقوقه وجنوحه نحو حياة السكر والمعصية، وتتبّع أخبار الجن وكنوزهم ودفائنهم، مع ما يتطلب ذلك من أجواء تختلط بالمعصية والفجور، بتأثير من علاقة الصداقة مع سعدي، وعلى الرغم من غيابه المبكر عن المشهد الروائي، إلا أن ظلال شخصيته بقيت قائمة في معظم مشاهد وفصول الرواية. هكذا، وفي سياق فني تبدأ الكاتبة أحداث الرواية، التي تعتبر بدون أدنى شك رواية مدينةٍ بامتياز، بالحديث عن طقوس أهل مدينة حمص وأماكنها واستعراض سيرة شاعرها، وقد نجحت الكاتبة في تصوير التفاصيل الدقيقة لهذ المدينة، من خلال وصف الحياة الاجتماعية وتفاصيل الأماكن والشخصيات ومظاهر الحياة، تصويراً يفيض حيويةً ودهشة، من خلال الحديث عن مسجد خالد بن الوليد، المعلم الأبرز من معالم هذه المدينة، أو من خلال الحديث عن مقهى ديك الجن الحمصي شاعر المدينة الذي قتل زوجته جراء وشاية مغرضة.

البُعد الفلسفي والفكري

ولا تنحصر رواية «مطارح» فقط في عمقها السردي، إنما تنفتح على عدة قراءات فلسفية وفكرية، حيث يتداخل فيها الجنس بالدين، ليشكلا متناً حكائياً متبايناً، ففي الدين والجنس المقدّس هناك خط الدين النقي الطاهر، الذي مثله الشيخ درويش الزهايري، والذي يجسد الدين الصافي. وفي هذا السياق حرصت الساردة على أن تميز لباس الشيخ درويش، حيث وصفت مظهره الخارجي على النحو التالي .. «أما الشيخ درويش فقد مضى يرتدي جُبتّه ويحرك مسبحته بين أصابعه بعصبية حائراً إلى أين يتجه». أما في الجانب الآخر المتعلق بالمدنّس، فقد استطاعت الكاتبة من خلاله تسليط الضوء على عالمه العجيب والغرائبي، المتمثل في ارتباطه بزوجة من الجن، وعدم تمكنه لاحقاً من الارتباط بامرأته الإنسية إلاّ بعد موافقة زوجته الجنية، التي ارتبط معها بعهود وعلاقات شاذة. لقد تناولت الكاتبة هذه الشخصية المرتبكة القلقة المضطربة، المتطلعة نحو المجهول والغريب، التي آمنت بالخرافات والتهويمات والخيالات المدهشة والمعتقدات الشعبية كنوع من الهروب من واقعه الاجتماعي القاسي نحو عالم يقع بين الواقع والخيال، لا يخضع لحدود أو اعتبارات تقليدية بعد أن فقد والدته بطريقة قاسية مدمرة، ورأى انصراف والده للتعبّد وانشغاله بزوجته الجديدة. وقد أجادت الكاتبة تصوير الحياة السايكولوجية لوليد، التي أسفرت عن ارتكاب وليد لجريمة قتل أخيه زكي في لحظة فقدان الوعي الكامل.

البنية السردية

تلجأ الكاتبة إلى تقنية تعدد الأصوات، فها هو الشيخ درويش يتذكر، ووليد تتداعى في رأسه أفكاره ويحدد موقفه من أبيه الذي تزوج من امرأة أخرى بعد انتحار والدته، ثم تلجأ الكاتبة إلى السرد المباشر، بدون أن تفارقها النزعة الدرامية في هذا القسم، ولا نعني بذلك اتساع مساحة الحوار الثنائي، وإنما كثرة اعتماد الكاتبة على الأصوات الداخلية للشخوص، ففيما كان وليد يروي عن الوجع الذي أصابه جراء فقده لأمه تداعت الذكريات، فإذا به يتذكر كيف كانت أمه تصطحبه معها إلى سوق الحرير وسوق النسوان وتشتري له السمسمية والبشمينة، ثم تتوقف عند بائع الحرير الذي يغص دكانه بألوان وأشكال مختلفة من الأقمشة، فهذا حرير الصّايات، والشملة الحريرية، والصدرية…الخ».
وعلى الرغم من اعتماد المؤلفة اللافت على أسلوب تعدد الأصوات، إلا أنها مزجت بينه وبين أسلوب استخدام الراوي العليم، أو على ضمير المتكلم أحياناً أخرى ، مقربةً بذلك روايتها من الشكل التقليدي المألوف، مانحةً القارئ هامشاً أكبر للتمييز بين الشخوص: الشيخ درويش، وليد، حليمة، عبدو، نعوّس، الحكواتي، صفيّة، المجنون، سعدي، الباشا، بهيجة، القاضي، رمزية، خلود، العبدة، زكي. مضيفةً على الحكاية، رغم واقعيتها، طابع السرد العجائبي الذي يكاد لا يصدق.
من خلال الحكايات التي يرويها الحكواتي، والتي تم بثها في مفاصل الرواية، ومن خلال حكايات سعدي عن ديك الجن، وهي في المجمل ليست سوى حبكة متخيلة تماماً.

الشخصيات الروائية

تتألّف الرواية من أربعة وخمسين فصلاً، وقد حملت هذه الفصول عناوين منفصلة وملحق في نهاية الرواية بعنوان «ديك الجن مرآة الباشا». تعاني معظم شخصيات الرواية من القلق والتوتر والإحساس بالعزلة والاغتراب عن المحيط الذي تعيش فيه، وهو ما تجلى بتخييم فعل الموت على الرواية، لا بوصفه خاتمة للحياة، وإنما بوصفه قادراً على كشف عبثيتها، حيث تم رسم وتصوير شخوص الرواية، كما هي في الواقع، بشر من لحم ودم تنعم أجسادهم بالحركة، ونفوسهم بالمشاعر، ورؤوسهم بالأحلام. تعتمد الرواية على بطل إشكالي هو «وليد» يعاني من التمزق بين الذات والموضوع. وبالتالي لم يستطع التكيف مع الواقع، وينتهي به الأمر إلى الضياع والاغتراب والتمزق عندما يختار القوة والعنف والرغبة في المغامرة والبحث عن المجهول، من خلال الجن سعيا وراء ملذاته وأحلامه. ومن الشخصيات الأخرى التي تناولتها الكاتبة شخصية الشاعر ديك الجن الحمصي، هذا العاشق الأسطوري الذي أقدم على قتل زوجته إثر وشاية تزعم خيانتها له، ولكنه ترك للندم أن يأخذ منه كل مأخذ، حينما أيقن أنه تسرّع، وأن الوشاة كانوا كاذبين حاسدين، وأن زوجته ورد كانت مخلصة لعشقه وجنونه، وقد ظهرت شخصية هذا الشاعر في العديد من فصول الرواية، من خلال الحديث الدائم بين وليد وصديقه سعدي عن حكايته التي ما زالت ماثلة حتى اليوم في باب دريب، وفي العديد من الأماكن التي تجوّل بها وبقيت حتى اليوم شواهد على حكايته، ومن خلال قصائده التي تغنى بها وليد وصديقه سعدي أثناء سهرهم على ضفاف نهر العاصي. ومن الشخصيات الأخرى التي تناولتها الكاتبة بشيء من التفصيل شخصية «الباشا التركي» القادم إلى حمص من حلب مصطحباً زوجته الثانية، الشابة الجميلة التي أصابها المرض، فانتقل بها للعيش في مدينة حمص لمناسبة مناخها ولمناظرها الفاتنة، فغدا وهو القادم من مكان آخر جزءاً لا يتجزأ من هذه المدينة الآسرة الخلابة والقادرة على صهر روح الإنسان بتضاريسها وحكاياتها. هنا يظهر الهم الشخصي والعام، وتقدم الكاتبة من خلال شخصياتها الروائية، واقع مدينة حمص عبر تفاصيل ولغة معبأة بالصدق وترزح تحت أنقاض الألم والمعاناة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى