تسابيح خاشعة – العربي الحميدي

الجسرة – خاص

أول مرة كان اللقاء تحت ضوء فضي قمري، وحفيف صاف ينساب بين سعف النخل، واحتفال شهب السماء في ليلة شبه ظلماء. سقطت صورتها في فكري وأنا احاول ان ابحت عن نفسي وسط إهتزازات الألم داخل قفص الشعور. نقيق الضفادع كان يرد على تساؤلات تجوب مخيلتي ذهابا وإيابا كنخلة تقاوم ريحا غربية عاتيه. كم هو كبير حجم التساؤل حين يغيب اتخاذ القرار. هل اشرب أو على الأقل أتذوق، وكأنني أرد على تساؤلاتي. قطرة ماء في الصحراء تعادل الحياة. الظنون تتوالد وتدور في مخيلتي، رغم تأكدي أنني لا أحلم، وان ما يحدث هو حلم يقظة. سبحت في رذاذ المتعة إلى اقصى ضفة.
كان طيفها يداعبني. أخيرا فتحت صفحة جديدة، ولم أسأل لماذا اطلت علي في هذا الوقت بالذات. لماذا أدركت إن اللحظة مواتية. أليس هو حب الرغبة في اكتشاف غرفة القلب النائم والإحساس الصائم.
هي المرة الأولى التي أشعر إنه ينظر إلي نظر شريك ليس منقد أو معيل…! فكانت الاستجابة للحلم. الآن أحلم بأشياء أخرى، أحلم ان أقابل القدر، أتقبله بخطيئته، إن كانت فهي خطيئتي، فأصبحت اخطو فوق النار. أعيش اولا..! لأنني لم اعش عيشة الشريك ولأحرق بعد ذلك لا يهم. فالمقاومة إذا عبث. بعد انفراد الإعجاب بعيني وسطوع النور من خلف النافدة. أعرف إن الطريق طويل ومنال الغاية صعب. فتركت الرغبة تتطلع إلى العاصفة التي جدبتني من قاع الغفوة، بعد تسابيح خاشعة.
حل موعد الهجرة، وطار الطائر السيبيري الى شاطئ البحيرة الميتة المغشية. حاملا الأمل، تحت جناحين، حفيف نسيم، هفهافة عطرة لمشاعر جففتها رياح الأرق والقلق. فاستيقظت الأحاسيس.
ثمة شيء هائل يحدث، في اليقظة، كل شيء يتلون ويتنوع لا حاجة للتعبير شفويا. الإبتسامة مع الدموع، دموع الفرح تداعب دموع الأمل. قتل اليأس، فهل يعيش الأمل؟ تلاقى الوجهان وهما غارقان بماء الإفاقة لعدم توقع هذا القاء ، صامتان و غارقان في دهاليز النشوة، فتحولت المشاعر الى مظاهرة تسرد بحنق زمن القحط الذي عيش.
كل هذا يجري على كتبان رمال (الشغاغة) في راس السنة الميلادية. رفعت عيناي إلى السماء، كما ترفع سعاف النخل في الواحات الخضر فملأت عيناي شكرا. إنها الحياة تسقى بجدول من عيون خضر.
اجمل ما في الحياة عينا المرأة والابتسامات المرسلات. لقد إستيقظت و نسيت الماضي و غادرت محيطه .عند منتصف النهار، اشتد القيظ فأدركت أن الماضي يطوقني. فخيم الصمت من جديد، انتهت هجرة الطائر. شعرت كأن الزمن قد توقف ، فأصبحت في المواجهة مع غيبوبة الوعي. صرخت وقد بلغنا أعلى هضبة في “أنغام” خدعنا السكون. تعودين وبعدها اصبح جثة، وصوبت عيناي الى القفر المحيط بنا من كل اتجاه، وكأني طفل مذعور يطلب الحماية. فجأة أحسست ان قلبها بدأ يغوص، وبسمتها كالومضة أفاقتني من التيه. سأنتظرك لتغوصا قدماك في الثلج، لا رمال هناك…
في المطار لن تكون بركة دموع. حلقت الطائرة. …. أنتظر الموعد..

(2) مثلث برمودا.

اعرف جيداً لابد لكل بداية من نهاية ، لابأس لن اترك الروح تعود للجسد الميت، لا أريد أن اشعر بالزمن الى ان تصل الدعوة. قد يموت الحلم، ويسقط قناعه.
إستيقظت من النشوة ، غادرت المطار.، جلست على عتبة الإنتظار ، مرت اسابيع وانا سجين رشف القهوة والطواف حول الحلم. نسر شارد ، لا مأوى له ،مكبل الفكر. احوم حول مثلث، ثلاثة جبهات لا مقر ثابت فيها. من الفندق إلى قفر “انغام” مرورا بدار الوالد. كأني بطواف “مثلث برمودا”.
عينان تبحتان عن شيء مفقود من خلال نافدة القطار المتوجه الى أحد الجحور. فينساب شريط الزمن الماضي امام عيناي، إبتسامة تسخر منه ومن قساوته وهزل ايامه. وأخرى تنتشي من رشفة الحاضر الغائب. نكهة نكهه. بعد ساعة عاد النسر الى الجحر، ملقى بين اشواك الشك والضياع. ام مريضة وطائر مهاجر، فانزلقت في نوبة بكاء وكأنني في مأثم. بصوت خافت يحدثني الخوف من خلف قناع. لان شيئاً آخر قادم ، يتقدم بخطا هي الأخرى شحيحة و متتاقلة. بصوت فيه حشرجة من حنجرة ذات جسد يكاد يفنى، جسد اكلته العلل، وانهكته العقاقير. “سم يسري في جسدي”،
وهي ترتجف كإبريق على نار. ويطل الهمس بوسوسته، هل سأفقدها هي الأخرى. دبت بين جانبي رعشة باردة، ذكرتني بغوص قدماي في الثلج. وفجأة شعرت بغربة ، “يُتم الكبر أشد قسوة” . تدغدغت الحواس تحت وقع حديتها الرخيم. واضعة راسها علي قفص صدري. وعيناها كانما تستعطفان بقائي بجانبها. عن شفتيها دمعتين ، إنسابت كلمات مُرة، احرقت وجداني
“سأموت ولن تحضر العزاء” .
تلتها أخرى خافتة، لك رسالة فوق الرف احضرها ساعي البريد. التهب شعوري عند سماع الرسالة، ونبضات قبلي متسارعة الخفقان. إنه الخوف راح يتطاير ويغور في صدري، صانعا صاعقا تاركا جرحا بالغ العمق الى اليوم. شعرت كأنها تريد ان تقول الآن سوف تذهب لن اراك مرة أخرى، بل تهرب..! التفتت إليها بنظرة صامتة ساكنة قائلا في قعر بئر قلبي، سأسبح كما يهوى شيطاني ويريد قدري. فاستدركت بعد الغفلة، مبتسما، سأموت قبلك لا تقلقي اُماه. ستتعافين… كان كذبا..! إنها تعيش أيامها الأخيرة. لن تفلت من مخالب مرضها، لن تتعافى. انه قدرها.
فتحت الظرف، انها الدعوة، شعرت بسعادة أكثر من اي لحظة مرت عليها الفرحة مرور الكرام. واحسست فجأة ان قلبي بدأ يغوص في وحل طينه بطعم آخر. كيف الانسلال منه. وإلى اي اتجاه اركض. جريح حرب، حرب من نوع آخر. أول مرة كانت على الرمال تحت ضوء فضي قمري. وهناك اول مرة سيكون على صفيح فضي صافي متلألأ تحت اضواء أعياد الميلاد. على ثلج سيبريا وقد داب فيه وجه القمر. هل سيتدفق نبع حبها على مهل بخريره الحنون.؟ هل قطرات بريق عينيها الدافئة تصل منحنى شعوري لأستمتع بلذة التذوق.؟
تذوق ادب و ثقافة. “ضحايا الحب لبوشكين” لست أدري.. ؟
كان ردا على تساؤلاتي وظنوني التي تنشأ وتدور ككرة الثلج عند كل حدث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى