كالعادةِ ينسى نفسَهْ! – طه الصياد

الجسرة – خاص
ينسى أنْ يحيا
ينسى حبَّ امرأةٍ
أشهى منْ إصبعِ موزٍ
أنْ يبكي
أنْ ينعسَ كالناسِ
وقدْ تعبتْ في البردِ مفاصلُهُ
وأصابَ صداعٌ رأسَهْ
كالعادةِ ينسى نفسَهْ!
لا أحلامَ لديهِ
ولا أصحابَ
ولا قمرًا بالشرفةِ جاءَ
ولا طيرًا حطَّ
ولا موسيقى اندلعتْ
منْ مذياعٍ
إلا موسيقى حربٍ
أخذتْهُ صغيرًا يحلمُ
كي يصطفَّ كباقيةِ الجندِ بحضرتِهِا
ويصيرَ عدوًا ليديهْ
ولأشجارٍ يغرسُها بيديهْ
ولموسيقى ألفَها بيديهْ
ولأشعارٍ يكتبُها بيديهْ
ولناسٍ
عاشتْ في عينيهِ الواسعتينِ
ملامحهُمْ عمرًا
وانكسرتْ
مثلَ فراشٍ في عينيهْ!
كان أليفًا كالقطِّ
وصارَعواءُ الذئبِ قريبًا من بحتِهِ
كان يموءُ
وصارتْ رشاشاتُ النارِ ذراعيهْ
كانَ صغيرًا
أصغرَ من فستقةٍ
صارَ كصبارةِ قبرٍ
تخفي للإخوةِ موتًا
أعنفَ منْ موتِ الكلماتِ!
انكسرتْ أغنيةٌ في فيهْ
اشتمَ الأنفُ الموتَ
فصارتْ رائحةُ الموتِ أغانيهْ!
يا بؤسَ العالمِ
كمْ كسروهُ
وكمْ قتلوهُ
فصارَ القاتلَ والمقتولَ معًا!
واختلفتْ في المرآةِ ملامحُهُ
واختلفتْ نبرةُ صوتِهْ
يا بؤسَ العالمِ
كمْ خدعوهُ
فصارَ سواهُ
وأدركَ لحظةَ موتِهْ
أنّ العاشقَ فيهِ احتضرا
الشاعرَ فيهِ انتحرا!
ينسى أنْ يصغي للنحلةِ
وهْيَ تطنُ
وللزهرةِ
وهْيَ تفوحُ
وللنملةِ
تحملُ أبسطَ موجوداتِ الأرضِ
خزينًا لشهورٍ قادمةٍ
وتمرُّ بلا صوتٍ
للثقبِ/ البيتِ
وينسى أنْ يرجعَ للبيتِ!
رفيقُ النايِ توحشَ
صارَ رفيقَ الدباباتِ
وصارتْ داناتُ الدباباتِ أصابعَهُ!
يا بؤسَ العالمِ
كمْ قتلوهُ
فعاشَ غريبًا في خندقهِ!
ينسى أنّ ربيعًا طلَّ ومرَّ
وأنّ خريفًا طالَ
وأنّ عيالاً
بالغازاتِ السامةِ
والبارودِ اشتعلوا!
ينسى أنّ الحربَ اشتعلتْ
في غرفتهِ
بينَ الشباكِ وبابٍ
بينَ سريرٍ والكرسيّ
وينسى الأمَّ المتعبةَ
الأختَ الأرملةَ
السقفَ الممتدَّ سماءً منْ أحزانٍ
غطتْ أهلًا جوعى
لا يجدونَ الخبزَ بثلاجاتٍ
صارتْ مثلَ الزينةِ
في الشققِ المطليةِ بالحزنِ
ولا يجدونَ الماءَ
لأنّ النهرَ انقطَعَا
لا يجدونَ الحلمَ
لأنّ الحلمَ امتنعَا
لا يجدونَ الرأفةَ بالإنسانِ منَ الإنسانِ
ولا يجدونَ الثورةَ
إلا خيطًا قُطِعَا
لا يجدونَ الأملَ الباقي
في أعشاشِ قلوبٍ
تحلمُ بالحريةِ
إلا يأسًا وقعا
لا يجدونَ سلامًا
إلا الحربَ اندلعتْ
إلا القتلَ المجانيّ اندلعَا
تحتَ السقفِ الممتدِّ سماءً من أحزانٍ،
ينسى
لا كفًا رعشتْ
لا لاحظَ
لا دَمَعَا
يا بؤسَ العالمِ
كمْ كسروهُ
وكمْ قتلوهُ
فلا قمرًا مالَ
ولا نجمًا لمعا!
أغنيتي لا تشبههُ
كانتْ تشبهُهُ في السهلِ غزالاتٌ
في المنحدرِ وعولٌ
مثلَ زرافاتٍ
كانَ يطلُ على العالمِ
كانَ صديقَ الأرصفةِ
وحبيبَ الباراتِ المفتوحةِ ليلًا
إنسانًا مرتبكًا دومًا وخجولًا
ونبيًا مشغولًا
بالأفكارِ الكبرى
أغنيتي لا تشبهُهُ
– لا الأيامَ الماضيةَ
ولا الأيامَ الحاليةَ –
فمذْ صارَ مصابًا بالنسيانِ،
اختلفا
مذْ صارَ غريبًا عن ناياتي،
نزفا
أغنيتي لا تشبهُهُ
لكنْ يشبهُ نفسَهْ
لا يشبهُ في الباراتِ المفتوحةِ ليلًا ونهارًا
إلا كأسَهْ
لا يشبهُ تحتَ السقفِ الممتدِّ سماءً منْ أحزانٍ
إلا حدسَهْ
لا يشبهُ بينَ أغاني العالمِ إلا حسَهْ!
وأنا منشغلٌ بالقمرِ الناعسِ في الشرفةِ،
أنساهُ
وينساني
ونصيرُ غريبينِ
كأنّا لمْ نتعارفْ يومًا
لمْ نسكنْ ذاتَ الغرفةِ
لمْ نسمعْ نفسَ أغاني الحبِ
ولم نعشقْ سيدةً واحدةً
لم نتشاركْ فنجانَ القهوةِ
لم نشعلْ في الليلِ
لفافاتِ التبغِ المحشوةِ
بالهوسِ الزائدِ بالجنسِ
وبالقلقِ الزائدِ
بالخوفِ الزائدِ
بالحيرةِ والشبقِ الزائدِ
بالحبِ المجنونِ
وبالرغبةِ في اللاحبِ!
نصيرُ غريبينِ
كسنبلتينِ
ائتلفا واختلفا
تكسرُنا ريحٌ
وتعرينا أسئلةٌ
نتشظى كالأشعارِ الحالمةِ
نسقطُ مثلَ غريبينِ بحادثةِ قطارٍ!
حينَ تصادفَ أنْ جلسَ أمامي
كانَ البنطالُ الأسودُ بنطالي
والخطُ الأسودُ حولَ العينينِ
هو الخطُ
النظرةُ أعرفُها
وابتسمَ
كأني منْ يبتسمُ الآنَ
خطوطُ الكفينِ خطوطُ الكفينِ
وكانتْ طرقٌ واحدةٌ
ومحطاتٌ واحدةٌ
رائحةٌ واحدةٌ
وضياعٌ واحدْ
كانَ الزائدْ،
أنّ الحزنَ كبيرٌ في عينيه!
وأنا منشغلٌ بالوردةْ
بجمالياتِ الوردةْ
بالرائحةِ وبالساقْ
منشغلٌ بالأوراقْ
بالشرفةِ
حين تكونُ الوردةُ ناعسةً
قربَّ الفنجانِ
أمامَ القمرِ الناعسِ
كالعينِ الدامعةِ
القمرِ المفتوحِ
رسالةَ حبٍ
لامرأةٍ
تتشهى رجلًا غائبْ!
أتخيلُ أنَّ سوايَ أنا
وأشمُّ مصادفةً رائحتي
في قمصانِ سوايَ
كأنَّ الأرضَ تدورُ بنا
وتعيدُ حكايتنا
إذْ نكتبُ نفسَ الأغنيةِ السابقةِ
وكأنّا لا نكتبُ نفسَ الأغنيةِ السابقةِ
وكأنّ القمرَ الذائبْ
قطعةَ سكرْ
في صحنِ سماءٍ واسعةٍ ليسَ لنا!
وأنا منشغلٌ بالعمرِ الضائعِ في عمري،
أهواكِ
فيا بنتُ اتحدي بي
كي أكملَ أقمارًا ناقصةً
في شرفةِ بيتي
كي أمنحَ صوتي
زقزقةَ عصافيرْ
وفضاءً ليطيرْ
أغنيةً يتغنى الثوارُ بها
أجنحةً ومناقيرْ
عشًا ليعودَ صداهُ إليّ
إذا ناديتكِ في ليلي الباردِ
مثلَ العادةِ
لكنْ لم تنتبهي
ما أصعبَ ألا تنتبهي!
كانَ يغني،
والنايُ هو الشفتانِ
أصابعُهُ التبغُ المشتعلُ
القهوةُ عيناهُ
وكنتُ أراني
عبرَ النظراتِ الغامضةِ إلى السقفِ
أرى في الممشى ظلي
يزحفُ إثرَ خطاهُ
وقلبي يزحفُ!
لي أجنحةٌ ومناقيرْ
أجنحةٌ ومناقيرْ
أجنحةٌ ومناقيرْ
لكنْ لستُ أطيرْ!
العسسُ السائرُ في الليلِ
يطاردُني
ويطاردُهُ
لا نتحاورُ
لا نتحدُ لنوقعَ بالأعداءْ
لا ننتبهُ إلى الشبهِ الواضحِ بين الخوفينِ
ولا نفترقُ لنصبحَ أعداءْ!
نختبأُ وراءَ جدارٍ واحدْ
في الليلِ الباردْ
دونَ حديثٍ أو أسئلةٍ
لا نتأملُ أنّ مصيرًا واحدْ
في الليلِ الباردْ
يجمعنا خلفَ جدارٍ واحدْ
وسؤالٍ واحدْ
ويعذبُنا،
كالغرباءِ نصيرُ
كأني لا أتذكرُهُ ولا يتذكرُني
لا أعرفُ حتى أنّ ملامحَ وجهي باديةٌ في وجههْ!
لا أعرفُ صوتي في صوتِهْ
لا أعرفُ بيتي في بيتِهْ
لا أعرفُ موتي في موتِهْ
لا أعرفُ أنّ الدمعةَ في عينيهِ تسيلُ على خديّ!
…
(لارا، لارا)
لارا، لارا
لم أعرفْ إلا زنبقةً صوتَكِ!
لارا، لارا
لم أعرفْ إلا قنديلًا صوتَكِ!
لارا، لارا
لم أعرفْ إلا ملحمةً صوتَكِ!
لارا، لارا
كان يفضلُ مثلي أنْ يستمعَ إلى لارا فابيان
يعشقُ لارا فابيان
ينسى لارا فابيان
ينسى ما غنتْ لارا!
لارا، لارا
كانَ الحدادونَ
إذا لانتْ أقمارٌ للحدادينَ
يغنونَ
وكانَ النجارونَ
إذا لمعتْ أقمارٌ بينَ الأخشابِ
يغنونَ
وكانَ النساجونَ
إذا غزلوا قمصانَ سماءٍ واسعةً
للعشاقِ
وللشعراءِ
وللمحتاجينَ
يغنونَ
وكانَ النحاتونَ
إذا نحتوا منْ أحجارٍ أقمارًا للثوارِ
يغنونَ
وكانَ الفلاحونَ إذا زرعوا أو قلعوا
بينَ الأعوادِ الخضراءِ يغنونَ
وكانَ العشاقُ إذا عشقوا أو هجروا
يحصونَ النجماتِ
وبين النجماتِ يغنونَ
اشتعلي يا ثورةْ
فالثوارُ حديدُ!
كان الحدادونَ يغنونَ
ويا لارا
تجرحُني الأغنيةُ الشعبيةُ
يجرحني الطربُ العربي!
لأنكِ يا لارا
أغنيةٌ لا تشبهُ شعبي
أهديكِ لشعبي!
لملائكةٍ
يحتفلونَ بشعبي
إنْ قاومَ طاغيةً
أو حرّرَ سنبلةً
أو غنى !
لارا يا قمرا
غني للشعبِ المهزومِ لينتصرا
غني للقلبِ المهزومِ ليختصرا
سيدةً في حبةِ كمثرى!
غني يا لارا
غني
فالحائطُ جاري،
وظلامُ الغرفةِ أنهاري ومداري!
غني يا لارا
فالأغنيةُ العربيةُ
في هذي اللحظةِ لا تسعفُني!
غني!
لا قلبي لا الغزلانُ طريدةْ
كمْ أنتِ بعيدةْ
غني يا لارا
غني
فالأغنيةُ العربيةُ
في هذي اللحظةِ لا تسعفُني!