قراءة تأملية في رواية أحلام النوارس – العربي الحميدي

للروائي المغربي مصطفى لغتيري

الجسرة – خاص

تعددت القراءات في رواية أحلام النوارس…
لكن لا أحد سأل لماذا عنونت بأحلام النوارس؟
ولماذا طيور النورس بالضبط؟
وما هي الدلالات التي تحملها هذه الطيور الجلاد؟

هل رواية أحلام النوارس تترك للقارء هامشا للتحليل من خلال نوافذها السردية. وهل كتابتها تسمح بحرية استنتاج العلاقة الداخلية بين مفرداتها و الواقع. ام تقيد مخيلته بين رفوف جملها وصورها السردية؟
اعتقد ان الروائي مصطفى لغتيري راهن في البناء السردي لأحلام النوارس على السماح للقارء بمساحة واسعة لعدسة التصورات، وهامشا مهما لطرح الكثير من التساؤلات للمخيلة والمقاصد المتوخاة من روايته.
فعنوان الرواية عبارة عن جملة من كلمتين تجمعهما علاقة التجريد والاغتراب. التجريد كواقع جسد والاغتراب كبحت عن حلم الذي هو غاية الوصول إلى حقيقة وطن ومواطنة، ودور المرأة فيهما.
ميزة هذه الرواية خصوصيتها في ايحاءات الحاضر مع ارتدادات الماضي والامتداد بتطلعها إلى المستقبل. إنها تعيد القارء القديم ، وربما النورس الجديد لعهد النوارس، عهد اليقظة الواعية لعقول تمرست بالتمييز ونقد الذات، والقياس والتقويم. وكلما أوغلت اليقظة في اليفاعة والشباب وجدت في كل موقف هاتفا داخليا يهتف مصرا لابد للنظر أن يتدبر ، و للنفس أن تطالب والعقل أن يفكر. فيتحول كل هذا إلي منهج دائم يقيس الأمور بنظائرها. هم نوارس الستينيات و سبعينيات القرن الماضي.
تذكرني هذه الرواية بجوانب هذا التكوين ومصادره. أن النوارس لا تروض، تموت في الأسر، لأنها ذكية مع قدرة هائلة على التحمل، كما تمتلك عدة أساليب التواصل، فهي ستبقى رمز الشوق والوحدة والترحال بحتتا عن دفيء الحقيقة، لأنه قدرها. انها كالأحلام…
إن بطل هذه الرواية.. واحد من هذه النوارس. والروائي مصطفى لغتيري لم يضع العنوان اعتباطا.
يقول الشاعر:
أحلامنا نوارس تشد الرحيل إلى البحر
تغوص أحلامي في رماله
فيبتلعها حوت مفقود في أعماقي
أما في رواية مصطفى لغتيري، فأحلام النوارس تبتلعها حيتان عدة…

هل استعمل الكاتب الشكلانية الروسية مهتما بأدبية النص؟ أم استعمل البنيوية كمنهج وصفي لقراءة نصه الأدبي، فاهتم بالعالم الداخلي للنص في بنياته اللغوية والفنية والرمزية؟

لماذا التأمل في رواية أحلام النوارس (2)

أعتقد ان ما يمنح للأدب هويته، هي الصياغة وطريقة التركيب. ودور اللغة فيه هو ما يجعل الأدب أدبا. ليميزه عن سائر الأنظمة الأخرى فكرية كانت أو إجتماعية.
ولماذا دائما ما ينظر لأعمال السرد الغنائي بأنها فضاء للتعبير عن ذات الكاتب؟
هل فعلا تتسلل إليها بعض جوانب حياته الخاصة، وتجاربه الشخصية؟
أم هذا الإحساس يتولد لدى القارئ بسبب الصبغة الذاتية للسرد الحافلة بتصوير العواطف والانفعالات الداخلية، وحالة الاغتراب النفسي الذي تعيشه الشخصية الكاتبة أو الساردة؟
إن قراءة رواية أحلام النوارس وضعتني في إشكالية الفهم الصحيح للبنية السردية المتنوعة للروائي مصطفى لغتيري، خاصة حينما قرأت له
(الغنائية من العيوب المقيتة في القصة، وهي لا تعني سوي الحضور القوي لذات الكاتب وما يترتب عن ذلك من بوح وشكوى، فكلما أبعدت ذاتك نجحت قصتك، وحتى لو استعملت ضمير المتكلم لا تنس أبدا أنك تتقمص شخصية مختلفة عنك، و لا تكتب عن ذاتك. وأنك تستعمل ضمير المتكلم كحيلة سردية فقط للإيهام بحقيقة ما تسرده، لأن القارئ يهوى التلصص على حياة الكاتب الواقعية، ويقبل على القراءة إذا أوهمه بأن ما يحكيه لنا يطابق حياته. لكن ذلك مجرد حيلة سردية، فالسارد كائن من ورق أو من كلمات وقد يستفيد من حياة الكاتب كما يستفيد من غيرها من الحيوات، لكنه أبدا لا يطابقها، واعلم أن آخر ما يتمناه القارئ أن تحاصره في الزاوية الضيقة وتستفرغ عليه همومك واحزانك، بل يهمه ان “تعكس” له الحياة في تنوعها وتعقدها وعبثيتها.
واعلم اخيرا أن النزوع نحو الدرامية من خلال توظيف تعدد الأصوات وهو ليس سوى تعدد تصورات الشخصيات كفيل بإبعاد شبح الغنائية عن قصصك.)
إن ما أبحت عنه كقارء هي تلك التركيبة الفنية المخفية في مخيلة السرد الغنائي للروائي مصطفى لغتيري، لا عن ذاته. (فالذات غالبا ما تعبر عن نفسها بدون وعي، أو في غفلة من الكاتب، وتترك بصمتها في جل كتاباته). إذا كان التخيل يغسل الإدراك وينير طريقه. فعلى الكاتب أن لا يخاف السؤال.. من أنت؟ وإلى وجهة سردية تقصد؟ وبهذا قد يغري القارء بدراسة سيميائية لفهم دلالات تأويلات كتاباته، (رغم صعوبة تحديد مصطلح السيميائية نظرا إلى تشبع المنظور الدلالي لها).
إن اهتمامي ينصب في هذا الاتجاه لفهم الفنية الأدبية في السرد الغنائي لما يملكه من جمالية، سواء أكان هذا السرد للكاتب أو السارد. لأن الطريقة الفنية السردية هي التي في غالب الأحيان تدفع القارء للاهتمام بالمضمون وتجدب رغبته إلى مواصلة القراءة بشغف. إذا تفردت الحبكة بالخاصية الأدبية. لأن القصة ماهي إلا مجرد مادة خام تصقل وترسم تصوراتها بقلم الكاتب أو السارد البارع.
ما شد رغبتي للتمعن في رحلة النوارس عن باقي الروايات الأخرى (حاليا)، غنائيتها الممتازة والبنية السردية في الصياغة، وطريقة التراكيب وجماليتها الفنية ودور اللغة فيها. لأنها لم تسقط في فخ التقيؤ السردي إذا جاز هذا التعبير.
يقول مصطفى لغتيري:
(دعيني أشتهيك بالشكل الذي يجعلني اتخلص من كآبتي،)
ما هو هذا الشكل وكيف يراه؟ عليك أن تستعمل مخيلتك كقارء. وهنأ تتجلى شعرية الحكي في النص.
( لعلي أنفلت من شرنقة الجسد وأهيم في الملكوت “مترامي الأطراف”… أشرع أبواب الروح على مصارعها كي أعب النسيم باشتياق التائه في فيض الصحاري.. أكتشف القطرات السابحة في المدى الممتد أبدا كنهاية لا تحقق إلا وهما، في خضم أحلام تكبر رويدا رويدا حتى تتاخم حدود الحقيقة، ثم ما تلبث أن تنكص في صمت، تتقاذفها خيبات الزمن، تتهاوى بثقل صخرة “سيزيف”..)
إن حافز القصة غير مقيد فيها مما أعطاها التركيز على الفنية، فالصورة الفنية شكلت وحدة الفن وجوهر المضمون والشكل حيت تمكن السارد التواؤم مع الواقع والتسامى عن الغريزة والرغبة.
والسؤال الأخر المخفي
هل تم في هذه الرواية تغريب الأحداث المألوفة باستخدام الإبطاء والإطالة والقطع، لِأَنْ نولي انتباها عاليا، بعيدا عن إدراك المشهد المألوف إدراكا آليا؟
يقول الروائي مصطفى لغتيري
ايتها الحبيبة، فرغم أنك انقطعت عن زياراتي مند مدة ليست قصيرة، إلا أنني لم أفقد الأمل في أنك ستفاجئينني في يوم من الأيام بطلعتك شديدة البهاء، وأنت تحملين بين يديك بعض الدواوين، التي ألححت عليك بإحضارها لي في آخر زيارة، أتذكر أنني ناقشتك رغم مرارة السجن- حول قصيدة للشاعر الكبير أمل دنقل، وأتذكر أنك أصررت على أن مواقفه، فيها كثير من التطرف والرومانسية، يتعذر معهما أن تتحقق على أرض الواقع، خاصة في هذا الزمان الذي تبرأ من الحلم ورماه وراء ظهره.. حينما دافعت بحماس منقطع النظير عن رأيي، وقلت لك إن الشاعر إذا تخلص من رومانسيته فقد مبرر وجوده. والشعر لا يجب أن يفهم من خلال تجلياته الظاهرة، بل من خلال الإشراقة، التي تنبلج فجأة داخل المتلقي وهو يتعاطى معه…
هنا المرأة تمثل وجودين، حقيقي طول الرواية ومفقود عبر الزمن الذي يعيشه وصورتها بين يديه المرتعشتين حين يقول ايتها الحبيبة سأظل أنتظر كما انتظرتك وانا وراء القضبان، دون أن يتسرب اليأس إلى فؤادي.. سأتسلح بالأمل مهما طال غيابك..
يقول الكاتب والشاعر والناقد الأدبي الروسي: فيكتور بوريسوفيتش شكلوفسكي 1893-1984
(إن ما يمنح الفن معناه هو قدرته على أن يسقط الألفة عن الأشياء ويقوم بتغريبها ليرينا إياها بطريقة جديدة وغير متوقعة. وإن هدف الفن هو نقل الإحساس بالأشياء ليس كما نعرفها، وإنما كما ندركها، فعملية الإدراك هي غاية جمالية بحد ذاتها، ولا بد من إطالة أمدها )
• في الرواية لم يلعب السرد عملية التفتيت، حيت لم يمارس الاختفاء أو الالتفاف بين الضمير البارز تارة والمختفي تارة أخرى.
فالتخيل في النص يتناسج فيه الزمان والمكان والأشخاص، وخطابه يرمي إلى تعرية واقع نفسي ويوحي بوضع السارد الموزع بين الرغبة في الانتحار ومقاومة حريقه الجارف. وتبقى الرغبة في الحياة هي اللذة الاستفهامية.
يقول مصطفى لغتيري
(لقد أصبحت مجرد عاهة متحركة لا حيلة لها.. وكذلك بسبب السجن.. وأنت تعرفين أنه لكي أتخلص من حياتي لابد أن أكون قويا.. فالمرء الذي يختار أن يضع حدا لوجوده أي يصبح عدما، فهو حتما يتمتع بقوة خارقة، لأنه قادر على الاختيار، وهل من اختيار أصعب من أن ترمي وراء ظهرك هذا الشيء الذي يتلهف الناس علي الاحتفاظ به بشكل واع وبشكل غير واع، فغريزة حب البقاء راسخة فينا كما تعلمين ولا تحتاج إلى برهان ليؤكدها.. الانتحار قوة وليس ضعفا.. الضعف هو أن يتمسك الإنسان بشيء يرفضه بل ويمقته. ما معنى أن التمسك بالحياة وهي ترفضني؟.. لا أستطيع أن استوعب ذلك أبدا، ولن أقبل به.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى