موال أم يحيى – ماجد عاطف

الجسرة- خاص

طردتني أم يحيى من البيت. بكل بساطة صرّت ملابسي بغطاء خفيف، ووضعت الصرة إلى جانب الباب. عدت مساءً فوجدت ما وجدته في وجهي، واستغربت. نقرت الجرس ودققت الباب.
تخاصمنا من قبل، لكن لم يسبق أن بلغ جنونها حد طردي من البيت. مرّت خمس دقائق فأعدت النقر والطرق. اضطرت إلى أن تفتح لي نافذة الشرفة.
– ماذا حصل؟
متمترسة خلف القضبان، مكثت نصف دقيقة تتفرّج عليّ بكراهية وشراسة. أخيرا قالت:
– ملابسك ها هي في الصرة.
– سألتك ماذا حصل.
– أنت أدرى.
– أنا؟
لم يكن هناك شيء. بل لم نختلف على أي أمر. قلت لعلني قلت شيئاً ما أو فعلت شيئاً أزعجها، كأن أترك ملابس عملي المليئة بالزيوت في البانيو عوضا عن وضعها في الغسالة الخاصة، فلم أتذكّر شيئاً. خرجت صباحا وكانت أموري جيدة، مثل بقية الأسبوع. وها أنا عدت مساء مثل كل يوم.
كانت ترتدي النظارة، وهذا معناه أنها ترى نفسها من الخارج، المتعلمة والمثقفة المعلمة الفاضلة، عكسي أنا الميكانيكي لا شهادة معي. كنت أراها هكذا وهي مع الناس، وعندها تنقلب إلى ليلى بنت المختار احمد لا أم يحيى زوجتي، الطفلة من داخلها، المؤدبة والطيبة، التي أعرفها. لم يكن يضيرني تعاملها هكذا مع الناس بل لعله كان ينفعني، فكنت أسكت.
– لا أتذكر شيئاً.
– أحسن!
هي لو تذكر سبب غضبها ينتهي نصف الأمر، والبقية أجد له حلا.
– والله لا أتذكّر!
– موالك في سهرة هناء بنت حافظ!
حاولت أن أتذكّر فلم أتذكّر. كالعادة موال ودبكة وشيء من التنافس على صخب ينتهي، عادة، بالعشاء.
– ماله موالي؟
– هو أكثر من موال!
– صلي على النبي وسمّي بالله. موال مثل غيره، وأنت تعرفين كنت أحب السهرات. بل في عام واحد حضرت ثمانين سهرة، وكلها نفس الشيء. زجل وموالات وحداية.. لا شيء جديد.
– لم تقل هناء هذا!
– ماذا قالت؟
– أنت أدرى!
حاولت أن أتذكّر ما قلته ويمكنه أن يحسب عليّ، لم أجد. سهرة كغيرها، حصلت قبل أسبوع. أم يحيى كانت مشغولة ورفضت الذهاب فذهبت وحدي. ارتجل وأقول ما يخطر لي. وهكذا هو الزجل والحداية، تقريبا قالب واحد نضيف بيتا أو نستبدل كلمة. ما يعن لنا نقوله، المهم ان يكون جميلا ومسلياً. ثم فهمت.
– أهذا بسبب هناء نفسها؟ أخبرتك عنها ولم أكذب عليك. شيء قديم من 16 عاما. كنت افكّر فيها فقط ولم يحدث شيء بيننا، بل إنني لم اكلمها كلمة خاصة واحدة. فقط بعض الموا..
– بعض الموالات؟ يا فرحتي بك!
وتذكّرت. موالاتي في السهرة هي نفسها التي كنت أرسلها لهناء. اللعينة تذكّرت هذا وذكرته. ثم أخذت أتذكر: والد هناء في تلك الليلة، أحاطني برعاية خاصة وابنه مصعب كذلك، وقلت لنفسي إن ذلك لأنني حرّكت لهم السهرة، وربما وفّرت عليهم أجرة مَن استأجروه ولم يفلح.
– موالات يا ام يحيى، اعقلي. أشياء نبالغ فيها ونركّز عليها فتبدو ضخمة. ولتجميلها نضيف الخيال والكذب وكل أنواع البهارات. أعذب الشعر أكذبه.
– ليس هذا ما تقوله هي أو ما يقوله موالك!
غابت نصف دقيقة وعادت بسي دي. كانت تضع اصبع شاهدها في مركزه الفارغ. صاروا يسجلون السهرات أو مقاطع منها، ولا بد أنهم سجلوا موالي. القته من بين القضبان فالتقطته.
– المرة الوحيدة التي رأيتها فيها، ومن أجل وثيقة، لم تستمر أكثر من دقيقتين وكان هنالك أكثر من موظف.
– لم تكذب عليك، اطمئن. لكن كلامك هو المشكلة لأنك ما تزال تفكّر فيها. عقلك معها وماذا تبقى لي؟
أغلقت النافذة وذهبت للداخل. كانت حزينة، وهذا يؤلمني، لكن ما حصل قبل أن أعرف أم يحيى حصل، والمتبقي موالات. هل كنت أفكّر في هناء؟ قطعا لا. نسيتها. ولو تذكّرتها فإنّه موال، مجرد موال! الخطأ الوحيد الذي اقترفته هو أنني لم انتبه أنها موالات كانت هناء نفسها تعرفها لأنني –في لحظات طيش- كنت أرسلها لها في البريد.
ثم تذكّرت أنني ارسلت لأم يحيى أيضاً موالات في البريد، وربما قاست على نفسها. هناء لم تخطر لي لحظة واحدة كزوجة. عوالم داخلية وافكار تجسدها الموالات وتوهم بها. ثمّ لأواجه الحقيقة. أنا لا أستطيع التعامل مع النساء، هكذا كنت وهكذا سأظل، بالكاد تدبرت أمري مع أم يحيى التي ألفتها بعد عناء واعتدت عليها. الخطأ الوحيد الذي اقترفته هو أن موالي كان متعلقاً بهناء. ومع أن ام يحيى تعرف أنني كنت افكّر فيها، لم تحتمل الأمر.
لم أفهم أين المشكلة.
نقرت الجرس. لم تخرج. دققت الباب. لم تظهر. ستكون الآن في الداخل تبرد اظافرها أو تدهن بشرتها. حين تجن تفعل أي شيء لتبقي نفسها خارج لحظتها ولا تتأثر.
أخذت أنادي عليها، استهديها، ارجوها، فأضاء الجيران أنوارهم. نسيت الوقت ونسيت الجيران، وصوتي كالعادة مرتفع. الآن قال وقيل سيتناقلان على الألسن. ولعله شيء نسائي أيضاً يجهله الرجال يجب أن يجد تكملته.
أعرف حل المشكلة. الكلام حتى لو آلم يظل كلاما لا ينافس الفعل. فقط احتاج إلى أن أكون قريبا منها. ضمة صدر تنسيها قلقها.
احتدت أعصابي واوشكت على فقدانها، ولحسن الحظ أضاءت ام يحيى الضوء الخارجي، وظهرت ثانية من النافذة.
– الليلة ستبات في الكاراج. إذا ازعجتني طلبت لك الشرطة ولا تنسى أنني صاحبة البيت. بلا فضائح. معك اسبوع لتفكر فيه: هل نسيت هناء فعلا أم هي في رأسك.
– والله نسيتها.
– لا تحلف وخليني أكمل: ولتثبت أنك نسيتها، عليك أن تؤلف موالاً في أنا. موالاتك التي كنت ترسلها لي هزيلة. لا تعد قبل أن تنتهي منه.
احترت بين الضحك وأن أمسك لها شعرها فامعمطه! ولكنها بعيدة عن متناولي واحتاطت لذلك. اهتزت من داخلها إذا؟ غارت؟؟ قال وقيل بين نساء؟
– ما بيننا أعظم من موال يأتي من أوهام وخيال يا أم يحيى. أنت افضل امرأة عندي.
– هذا ما عندي. بالمناسبة: شرط أن يعجبني أيضا!
أيضاً؟ ورطة كبيرة لأنها تحفظ موالات كثيرة.
بصرامة، أغلقت النافذة ثم الباب الداخلي وأطفأت عليّ الضوء. لا فائدة، تحجر دماغها عند الموال. سلّمت.
في الكاراج هناك حمام، وسخان ماء للشاي والقهوة، وهناك مقعد سيارة يمكنني النوم عليه.

سأعرف بعد شهرين من النوم على المقعد أن أصعب شيء في الموال الحقيقي هو أنه لا يأتي بناءً على طلب، بل إنني أنا نفسي لا استطيع معرفة ما سأقوله ولا متى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى