الفُنونُ التَّشْكيلِيَّة والتّكنولوجيا… تساؤلاتٌ حوْلَ الإبداع والتقنية – حسن ملواني

الإبداع لفظة تحمل سحرها في توصيل الأحاسيس مع الجذب إلى المراد تحقيقه، علاوة على الارتقاء بالأذواق تهذيبا وترقيقا، لذا صار الإبداع مجالا يحقق الكثير من مآرب الأفراد والجماعات والمؤسسات، بل إنه وسيلة تكاد تكون الوحيدة التي تبلور وتعكس ثقافة الشعوب وهويتها. ويعد الفن التشكيلي أبرز هذه الفنون التي جسدت نمط عيش وتفكير الإنسان عبر مراحل تاريخية مختلفة.

التشكيلي والمجتمع

لقد كان التشكيلي ككل المبدعين شخصا ذا ملكات خاصة لا يتوفر عليها غيره من أفراد المجتمع، ما أكسبه تفردا وخصوصية جعلته يتبوأ مكانة خاصة عند العامة وعند النخبة، فالعامة ترى فيه المعبر عن تطلعاتها وطموحاتها، والنخبة تحاول أن تستهدف به تحقيق سياستها وتنفيذ نظرتها في التغيير أو الإبقاء على كل وضع ترى فيه مصلحتها قبل مصلحة غيرها. فالتشكيلي خلّد آثار الأولين وسيخلد آثار المحدثين ليراها الآتون مستقبلا، ويبدو ذلك في سعة مفهوم الفنون التشكيلية لتشمل العمارة والنحت والرسم وغيرها.

التشكيلي في عصر التكنولوجيا

وإذا كان الفنان التشكيلي له ريادته في مجاله انطلاقا من استخدام أدواته البسيطة والمتطورة عصرا بعد عصر، فإنه اليوم يواجه ما لم يواجهه من ذي قبل، فهو أمام التكنولوجيا التي تعد شبحا قد يلتهم ريادته، إن لم يستطع ترويضها وتكييفها بشكل لا يؤثر على فرادته النابعة من مهاراته كإنسان يختلف عن الآلة في أكثر من جانب. لقد ظهرت الآلة بفضل التطورات الحاصلة في مجال الابتكار والاختراع لتحمل معها سلبياتها وإيجابياتها في الوقت ذاته. ولا غرو أن الإبداعات غير التشكيلية استفادت من التطور التكنولوجي استفادة فائقة، فاللوحات عن طريق الوسائط السمعية البصرية تعرض على الجمهور في مختلف بقاع العالم، وهذا مكسب إيجابي يساعد على التعريف بالمبدعين وبمنتجهم الفني، بل إن هذه الوسائل قد تساعد في تسويقه بيسر، غير أن وسائل إلكترونية متطورة صارت تستخدم في الإنتاجات التشكيلية، وفي مقدمتها الحاسوب الذي يسهل مأمورية التشكيل تلوينا وترصيفا وتحويلا، بتقنيات يمكن امتلاكها والعمل بها من قبل المبدعين الموهوبين، ومن قبل من لا موهبة ولا علاقة له بالتشكيل أصلا، وهذا أمر يشكل خطورة على الملكات المميزة للفنان التشكيلي عن غيره من الناس. فالتقنيات بما تتيحه أنتجت آلاف التشكيليين الذين يبدعون بالضغط على الأزرار بدل الاتساخ بالأصباغ والأحبار، وصارت المعارض تدخل عبر هاته الوسائل إلى البيوت بدل قطع المسافات إليها.

التعبير والتقنية

لكن ثمة تساؤلات تطرح نفسها أمام هذه المعضلة المؤرقة لبعض التشكيليين الذين يرون في التكنولوجيا بخساً لمنزلتهم وأحقيتهم في تبوؤ مكانة المبدع الجدير بالتقدير والرفعة. تساؤلات من قبيل الحديث عن الفارق بين المنتج بالآلة باعتباره يتم عبر آليات مبرمجة ومحملة ومخزنة، والمبدع بما يحمله من مشاعر ورؤى تتغير وفق تغير مزاجه عبر معطيات ومجريات الواقع المعيش، ومن هنا يحتفظ الفنان التشكيلي الأصيل بقيمته الرفيعة مقارنة بـ(المبدع) القاصر، الذي يحاول أن يسد نقصه وقصوره الإبداعي بواسطة الآلة. ومن هنا نخلص إلى كون التكنولوجيا مهما أوتيت من تطورات لن تكون سوى وسيلة لن تضاهي في أي وجه من الوجوه ما يأتي به الفنان، باعتباره إنسانا يضفي مشاعره وخلجاته على العمل الفني فيظهر ذلك عليه ليجعل عمله فريدا لا يمكن إنتاجه بمجرد وسائل لا عواطف ولا مشاعر لها، وليس لها من الفن سوى معطيات مخزنة تحت الطلب، وستنتج عن ذلك سمات لن تنجو من التكرار الذي نعتبره عدوا للإبداع والابتكار. على أن التكنولوجيا بتطوراتها الهائلة قد تتخطى إن لم تكن قد تخطت هذا الإشكال، ليصير الفن الرقمي فنا قائما بذاته إلى جانب الفن بصورته السابقة المعتمدة على عمل الفنان بأحاسيسه وحواسه وأدواته البسيطة.
فكما أن للفن التشكيلي مدارسه المختلفة، فستكون له أدواته، وكل فن يقيَّم وفق أداة إنتاجه، ونتصور أن نجد فنانين تشكيليين بارعين وعكسهم في الفن الرقمي موازاة مع غيرهم من الذين يبدعون بعيدا عن الحواسيب وما يشبهها من الأدوات الرقمية. وانطلاقا من هذا التصور، فالإبداع التشكيلي سيظل إبداعا سواء بهاته الوسيلة أو تلك بالنظر إلى صياغته التي لن تخفي إمكانيات صاحبه الإبداعية.

* المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى