مرفأ آمن – مروة متولي

مسلسل أسترالي عن المهاجرين

الجسرة – خاص

بعيداً عن المباشرة الفنية والكليشيهات الفارغة واستغلال المأساة كموضوع رائج، يقوم المسلسل الأسترالي “مرفأ آمن” إنتاج شبكة إس بي إس 2018 في محاولة جادة ومتوازنة إلى حد كبير بتناول قضية الهجرة واللجوء بشكل درامي يهتم بجودة عناصره الفنية، ويحاول التعمق والتركيز على الجوانب والأبعاد الإنسانية والنفسية والفلسفية، فلا ينساق وراء محاولات بائسة لنقل الواقع ومحاكاة مشاهد الغرق ومصارعة الموت في البحار والمحيطات، وإنما تأتي هذه المشاهد كومضات خاطفة من حين إلى آخر في حلقات المسلسل، لأنه في مثل هذا الموضوع ينهزم الخيال أمام الواقع ومهما كان الاجتهاد والإبداع في تصوير هذه المشاهد فإن لقطة حية أو صورة فوتوغرافية واحدة كفيلة بمحو أي أثر للأعمال الفنية.
في حلقات أربع مدة الحلقة ساعة كاملة يتناول المخرج “غليندن آيفين” مع ثلاثة من الكتاب، قصة عائلة من المهاجرين العراقيين والتي تتكون من “إسماعيل البياتي” وزوجته “زهرة” وابنه “أسعد” وشقيقه “بلال البياتي” الذي فقد زوجته في العراق ولا أطفال لديه ويعيش في بيت شقيقه إسماعيل، بالإضافة إلى صديقهم “ماتو” الإفريقي الذي لا يتحدث العربية ولم يذكر العمل بلده الأصلي، وقد كان معهم على متن مركب الصيد المتهالك وخاض معهم تلك الرحلة الرهيبة حتى وصلوا إلى أستراليا، وكانوا من الناجين بعد غرق المركب وموت بعض من كانوا على متنه ومن بينهم الطفلة “ياسمين” ابنة إسماعيل، وزوجة “ماتو” وابنه.
يحتوي المسلسل على بعض المشاهد باللغة العربية وباللهجة العراقية تحديداً، والتي حاول التحدث بها قدر المستطاع في تجسيده لشخصية “إسماعيل البياتي” الممثل الفلسطيني-الأسترالي “حازم شمس” الذي ولد بفلسطين في السبعينيات ثم هاجر مع أسرته طفلاً إلى أستراليا كلاجئين فلسطينيين، وهو ممثل مسرحي بالأساس قدم العديد من أعمال شكسبير منها “عطيل” و “تاجر البندقية” بالإضافة إلى عمله في السينما والدراما التلفزيونية، وقد حصل مؤخراً على جائزة “لوغي” عن دوره في مسلسل “مرفأ آمن” وهي من الجوائز التلفزيونية المهمة في أستراليا، أما الممثل “روبرت ربيعة” الذي قام بتجسيد شخصية “بلال البياتي” فقد كان يتحدث باللهجة اللبنانية، ويبدو أن هذه المشاهد العربية كانت باجتهاد شخصي من هذين الممثلين في محاولة لإظهار الصوت الأصلي للشخصيات، واللافت أن هذه الحوارات العربية مكتوبة جيداً بإحساس مرهف، ولا يؤثر ضعف النطق أو اختلاف اللهجات على قوة الأداء، بل تعد من أقوى المشاهد لكل منهما، حيث تم توظيف العبارات العربية في المشاهد المليئة بالمشاعر الكاشفة عن أعماق الشخصيات وخبايا روحها.
تدور أحداث المسلسل في عام 2018 بعد خمس سنوات من حادثة عام 2013 عندما استغاث مركب المهاجرين بيخت الأسترالي “رايان” في بحر تيمور في المحيط الهندي، حيث كان في رحلة إلى إندونيسيا بصحبة زوجته، وشقيقته وحبيبها، وصديقتهم المحامية “هيلين” ، يفشل “رايان” في محاولة إصلاح محرك المركب فيقوم بربطه بحبل إلى اليخت وتغيير مساره والعودة بهم إلى أستراليا كما طلبوا منه، ولأنه يعلم أنهم إن ذهبوا إلى إندونيسيا فسوف يهلكون ولن يحصلوا على أية فرصة للحياة الجيدة، ثم في منتصف الليل يتم قطع الحبل وتحويل مسار اليخت مرة أخرى إلى إندونيسيا بدون أن نعرف الفاعل، ثم يلتقي الجميع بعد ذلك في أستراليا لأن “إسماعيل” كان يبحث عنهم، ويخبرهم أن المركب قد غرق وأن ابنته “ياسمين” وآخرين ماتوا بسببهم، ثم يطلب محاكمتهم قانونياً، ويتم التحقيق معهم ويتعرضون لخطر أن توجه إليهم تهمة “الإهمال الجنائي” وعقوبتها السجن عشر سنوات، لأن القانون الأسترالي يلزم بغوث ومساعدة أي مركب في البحر.
ويعتمد العمل على الإثارة، حيث يسرد وقائع القصة كشذرات متناثرة وبغير ترتيب زمني، وتمتلئ الحلقات بالأحداث والتطورات الدرامية والمفاجآت والتحولات، ويتابع المشاهد الحكاية ويلملم تفاصيلها من خلال الانتقال من فكرة إلى أخرى ومن إحساس إلى آخر، ويقوم بخلق تصوراته واستنتاجاته حيث يمنحه المسلسل تلك المساحة، فلا حقيقة مطلقة ولا إجابات قاطعة للأسئلة الكثيرة التي يطرحها العمل، كمن المذنب؟ وعلى من يقع اللوم في كل ما يحدث؟ فالكل يشعر بالذنب ويلوم نفسه ويلوم الآخرين أيضاً، ولماذا تحدث هذه الأمور السيئة؟ ولماذا تحدث لبعض البشر دون غيرهم؟ وهل يجب التمسك بالإنسانية وسط ظروف لا إنسانية؟ وكيف يمكن الاختيار ما بين الشعور بالخوف من الآخر والشعور بالواجب والالتزام الأخلاقي؟ وتفضيل النجاة بالنفس على حساب إنقاذ الآخر؟ وكذلك الاختيار ما بين المغفرة والانتقام، حاول العمل تقديم المشاعر الإنسانية كما هي بكل تعقيداتها وتذبذبها بين الخير والشر، فلا ملائكية مصطنعة ولا شيطنة لطرف ما، حتى نصل إلى مشهد النهاية الدال على أنه إذا كان الغفران صعباً فإن التعايش ليس مستحيلاً.
بالإضافة إلى تميز الكتابة والإخراج فإن التمثيل هو أقوى عناصر هذا المسلسل وأجملها فنياً، الكل يمثل جيداً لكن الأدوار الثلاثة الرئيسية (إسماعيل، بلال، رايان) كانت الأكثر تميزاً وشهدت تنافساً بين الممثلين الذين تمكنوا من أداء أدوارهم والإلمام بدقائقها النفسية. وقد تميز الممثل “روبرت ربيعة” في تجسيده لشخصية “بلال” البطل المنهك، وكانت أقوى مشاهده عندما أخذ يتحدث بالعربية إلى “رينيه” صاحبة المقهى الذي يجلس فيه وتنشأ بينهما صداقة، وتخبره أن اللغة العربية تبدو قاسية عندما تسمعها على التلفاز لكن ليس عندما تسمعها منه وتستمع إليه وكأنها تفهم وتشعر بكل ما يقول رغم جهلها باللغة، فيعرف المشاهد حكايته من خلال هذا المشهد حيث يقول: “بالعسكر، بالجيش يعني، تمرنت مع الجيش تبعكن”. فنعرف أنه كان في الجيش العراقي وأنه تدرب مع القوات الأسترالية أثناء وجودها في العراق، وأنه كان مستهدفاً من الإرهابيين الذين لم يتمكنوا منه لكنهم أمسكوا بزوجته واغتصبوها ثم أعدموها شنقاً وتركوها معلقة لأربعة أيام، وقد تمكن من خلال هذا المشهد من التعبير عن جرحه الهائل وشعوره بالهزيمة، وعمق الندوب في قلبه وروحه الأقسى من الندوب الجسدية التي تبدو على ظهره كآثار لتعذيب بشع، بالإضافة إلى المشاهد الأخرى التي يبكي فيها صامتاً عندما يجلس بمفرده، وفزعه كمن سمع دوي انفجار عندما توقظه “رينيه” من نومه هامسة باسمه.
أما الفنان “حازم شمس” فهو ممثل ثري الروح يملك نفساً عميقة غنية بالمشاعر، وكثيرة هي مشاهده في هذا العمل التي تمكن فيها من التعبير عن الشخصية وما تتقلب فيه من حزن وغضب ومحاولات التجمل بالصبر والجلد والتمسك بالإيمان حينما يتوضأ ويصلي في المسجد ويطيل السجود، فهو الأب المحب لابنته التي يشتاق إليها في كل يوم ويعاني آلام الفقد، ويتذكرها وهو يحتضنها على متن المركب ويخبرها بأنه سيعد لها “البورك” وهي أكلة عراقية شهيرة، ويحدثها عن أستراليا وكيف هي جميلة وبها كل شيء، وأنه سيحضر لها كل ما تتمناه، أما أقوى مشاهده فهي عندما يذهب إلى صديقه “ماتو” لأنه لا يكون في صحبته “مضطراً للتظاهر بالسعادة”، ويجلسان ليلاً في مرسى اليخوت ينظران إلى يخت “رايان” ويستعيدان الذكريات الأليمة، وفي حديث مع “ماتو” الذي لا يتقبل حقيقة موت زوجته وابنه ووصوله وحيداً إلى أستراليا يقول “ماتو” : كل ما أردته هو حياة جيدة لي ولأسرتي، لماذا عوقبت على ذلك؟ فيقول له “إسماعيل”: القرآن يقول إننا نبتلى ونختبر، وأنه بدون الألم لا يمكن أن نكون أقوى وأن الله يريدنا أن نكون أفضل. فيقول “ماتو”: ولماذا لا يختبر الله الآخرين؟ لماذا يختبرنا نحن؟ لماذا أنا وأنت نعاني في بلادنا ونعاني كي نغادرها ونأتي إلى هنا ونعاني أيضاً؟
تنكأ هذه الكلمات جراح “إسماعيل” العميقة ويقول في مشهد في غاية من الصعوبة تمكن منه بأداء مذهل: معاناتي تعمق صلتي بالله، إن الله يحبني. ينطق بهذه الكلمات بألم شديد وكأنها تقتلع روحه، ينطق بها لسانه بينما عيناه وروحه وأعصابه وجسده وكافة جوارحه تكاد تصرخ بعكس ما ينطق به، ثم يقول له “ماتو”: هل تظن أن الله يحبك؟ ما حدث لنا يا إسماعيل لم يكن حُباً. فينهار “إسماعيل” وتخور كل قواه من فرط الألم، فيصعد على اليخت وينظر إلى السماء ويطلق صرخة هائلة، ثم يقول بالعربية: ليش أني؟ ليش تعاقبني؟ ثم يجلس هادئاً وكأنه يحتضن ابنته ياسمين ويغني لها هامساً، وقد تمكن “حازم شمس” ببراعة في هذا المشهد من التعبير عن هذا الانجراف الروحي حيث تتدفق الآلام دفعة واحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى