التونسي الحبيب السالمي روائي العلاقات الإغترابية الملتبسة

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-
*محمد برادة
في روايته التاسعة، يتـابع الحـبيـب السالمي اســتـيـحاء مسارات تـخيـيـلية لشخصيات تونسية وعربية، تعيش في وضعٍ مُوزّع بين فرنسا ومســقط الرأس. والهجرة هـنا لا تـقتصـر على فئات العمال والخدمة اليدوية، بل تــتعلق في هذه الرواية، بشـباب مـغاربي وعربي يقـصدون فرنسا بحــثـا عـن نمـوذج حضاري ثقافي ترسّـبَ في ذاكرتهم مـنذ فترة الاستعمار أوْ عـبر التعليم والحضور الكاسـح للآخر، المتفوق، القائد لـقـاطرة «التقدم» وَ «الحداثة»…
على امتداد خمسة وثلاثين فصلا تحمل عناوين مؤشرة على المضمون، يـتولـَّى المنصف سـرد وقائع ومشــاهد رواية « عـواطف وزوّارهــا» (دار الآداب). ولـعل ما يـبرر إســناد السـرد بضمير المتكلم إلى المنصف التـونسي، كـونـه شخصية محورية لـها علائق غرام وجـنس مع السيدة عواطف المطلقة، وسابقا مع مريم المتزوجة من جــاك، ومع بـياتريس زوجته الفرنسية. على هذا النحو، تنطلق الرواية والمنصف مـوزع بين نســاء ثلاث: مـريم التونسية المتحررة التي توقف عن مضاجعتها بـعد زواجها من جـاك، وبــياتريس التي تزوجها عن حب وأنجب منها بـنتا تـملأ حـيزا في حياته، ثم عواطف المصرية التي كانت متزوجة من بـوعلام الجزائري، تاجر خـردة، وأنجبت منه لـبنى ولكنها لم تستـطـع تـحمـُّـل خشـونته وفــكره التـقليدي المنــغلق. وعندما يتحدث المنصف عن «نـسائـه» يقول دون أن يطرف له جــفـن، حسب التعـبيـر المأثور: « ولــعل ما عـمّـق إحساسي بـأني لا أخــون بـياتـريس هـو أن عواطف تعرف أنـني أحـب زوجـتي. صحيح أنها حاولت في البداية أن تـنـفـرني منها، بل وأن تدفعني إلى هجرها. لـكنها أدركتْ أنــنـي وفـيٌّ لــبـياتريس وأنــي لا أتخــلى عنها أبــدا». (ص 16).
بين الداخل والخارج
مـعظم فصول الرواية تـدور داخـل شقة عـواطف التي انسجمت مع مريم؛ ونجد انفتاحا من حين لآخر على فضاء خارجي مـُـواز، هو فضاء مسقط الرأس حيث تعيش أخت المنصف، أو المقهى الشعبي لأحد الجزائريين. لكن الـسـهرات الأسبوعية عند عواطف هي التـــــي تضـبط إيـقاع الـسرد وتـُــلملــمُ خيوطه وتصبــغه بسحــنة «واقـعية» بـالـغة الـبروز. وإلى جانب ذلك، يفتح الكاتب نـافذة على الضفة الأخـرى، مسقط رأس المنصف، من خلال الرسائل التي يـتـلقاها هذا الأخير من أخـته الحنون، الساهرة على الأم المريضة ثم الحريصة، بعد موتها، على تـرميم قبرها واختيار آيــة قرآنية ملائــمة تنقشها على الشاهدة. وأكـثـر من ذلك، أن هذه الأخت الحنون تفكر فيما بعد موت أخيها المنصف، فتـشـتري له قبـرا! :» …تـقول في رسالتها تلك إنـها تحـبني كـثـيرا تماما مثلما تحب أبـناءها، وإنــها تخاف عـليّ دائما وتفكر فيَّ باستمرار رغم بـُـعدي عنها. وأنــا لا أشــكّ في هذا بالطبع؛ ولكن المشكلة هي أنها تحبــني أكـثـر من الـلازم. والدليل هو أنها تـعتزم حـفـرَ قــبـر لي الآن وأنا لا أزال حــيـا أرزَق!» (ص 163).
على هذا الـنحو، يـأخـذ بـناء ُالرواية ومســارُها السـردي طـابع الـتـوازي بيـن «الـهنـا» وَ «الـهنــاك»، وأيضـا بيـن خطاب «مـثـقفـي» شــلـة الـباســتيـل وخطاب كريم ابن مريم الأصولي، وصاحب المقهى والمـترددين عليه.
ويـتـعـزز هذا البناء بوجود شخصــيتــيْ رياض الصحافي الفلسطيني وصديقه الحمـيم إدريس الرسام المغربي، لأنـهما ســيـغدوان عـنصـرا مـؤثـرا في الحبكة العامة وفي زعـزعة المنصف عن عـرشه النــسائـي الـمريح.
البحث عن الذات
تـتوالى، إذن، السهرات عـند عواطف التي تُجيد إعداد الأطباق الشهية وتقـديم الـنبـيذ المنعش للنـزوة والانطلاق؛ ويـنضم إلى الشـلة رياض وَإدريس، وتـبدأ أسـرار صغيرة تـتـكشف عـندما يضبط المنصف كـلاّ مِــــــــنَ الصديقيْـن يتبادلان القـبَــل. ولكن سـرعان ما تـعتـبر عواطف وَمـريم أن هذا أمـر يخصهما، والأهم أنهما شخصان لطيفان، مثقـفان، يضـفيان على السهـرة نكهة كانت تنـقصها. ومـع الأيام، يـفاجئ المنصف رياض وهو يـعـلو مريم في الصالون الخالي للحظــاتٍ من رواده، وفي حركات محمومة تمحو من ذاكرة المنصف المتــلصص، شُـبْـهة المِــثـلـية التي تبادرت إلى ذهنه أول الأمـر. وحين يفضي هذا الأخير بما عاينـه إلى عشيقته عـواطف، تضحك وتـهـوّن الأمر، ثم لا تــلبـث أن تـخبره بأن إدريس يطاردها بـنظراته الشهوانية! يـقـتنع المنصف أن العلاقة بين إدريس وَرياض لا تمنـع من أن تكون ميولهما الجنسية ثـنائية الاتجاه، مثلية ومـُــغـايرة. وعندئـذ يحس بـخـطر التنافس الذي يـتهـدده. وتتجلى الحبكة النـهائية عندما تقـبـل عواطف الزواجَ من إدريس، لأنها تقـترب من السـن الحرجة ولا يمكن أن تظـل مطلقة دون أن تؤمـن مستقبلها…
مـا يستـرعي الانـتباه، أن هذا الـتحوّل في العلائق داخل الـشلة تـمّ في سلاسة ودون مـظاهـر تراجيدية، إذ أصبح المنصف يتابع حضور السهرات، مُتقبلا انتقال عواطف من وضع العشيقة إلى وضع الزوجة. وعلى رغم الخسارة التي مُـنـيَ بها كـرجلٍ يـتيـح لنفسه تعدد العلاقات الجنسية، فقد رضي بالتحول لأنـه جزء من منـطق المجتمع الفرنسي الذي يعيش فـيه، والذي أثــر أيضا في بقية أعضاء الشلة المُـتـصفيـن بالتحرر في سـلوكهم الجنسي. وفي الآن نفسه، نجد أن المنصف يظل مـشدودا إلى تلك القـيم «الـبـالية» التي تـمثـلـهــــا أخته الباقية في مسقط الرأس.
ونجد أيضا أن مريم المتحررة أنجبتْ ابناً مـتشبعا بالأصولية وقيمها المنغلقة. مـن ثم، يبدو سلوك أعضاء الشلة مُـتـسـماً بنوع من الالـتبـاس: هـم متحررون ومُـتبـنـّـون لقيم التحرر التي يتـيحها مجتمع «الآخــر»، ولكنهم لا يـقــطعون مـع رواسب المجتمعات العربية التي ينـتـمون إليها. قد يكون ذلك طـبيعيا إذا بحثـنا له عن تـأويل يـتصـل بـتـعـثــّـُـر المجتمعات العربية على طريق النهوض والتغـيـيـر، ولكن الالـتبـاس يظل قائما في ما يتعلق بالـعلاقة مع الذات والآخـر. فـعلى رغم المستوى الثقافي والمادي لأفراد الشـلة، يظل خِطابهم المؤثـث لتـعليـقاتهم أثـنـاء السهرات، قـريبا من خطاب «الـرأي العام» الفرنسي أو من موضوعات طالما اجــتــرّتـها الصحف (التـبـشـير بالمسيحية، تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب 1967 بين مصـر وإسـرائيــل…).
نحا الحبيب السالمي في روايته « عواطف وزُوارها» إلى الجمع بين الواقعية المعتمدة على التفاصيل والوصف الدقيق المُـسهب، والحبكة المركبة الكاشـفة عن ما وراء المرئيّ من السلوكات. والرواية في الآن نفسـه، مرآة لعلائق مـلتبسة تـطبع سلوك فـئة المتعلمين والمثقـفين العرب الذين يعيشون في فرنسا. ومن هذه الزاوية، تـُشكّلُ الرواية مجالا لإضـاءة جملة مـن القيم الكامنة أو التي هي قيد التبلور.