الصحافة العراقية.. تاريخ ممتد مع الأفق: من “جورنال العراق” إلى اليوم

الكتابة عن الصحافة العراقية، تاريخًا وموقفًا، ليست سهلة، لأن منعرجات وكواليس الصحافة، وتعدد السلطات، وتقلبات الأمزجة السياسية في فترات متعاقبة؛ لم تُفسح مجالًا للباحث الموضوعيّ أن يكتب بشفافية وإنصاف، باستثناء ثلة من الذين عاصروها، فكتبوا رؤى بيضاء عن مسيرة الصحافة العراقية، منذ نشأتها حتى إلى وقت قريب. كان أبرز هؤلاء الصحفي الكفء والكاتب “فائق بطي”، طيب الله ثراه، وهو ابن الصحافة، كونه سليل مدرسة صحفية كبيرة، أسسها أبوه المرحوم “روفائيل بطي” في ثلاثينيات القرن المنصرم، من خلال صحيفة “البلاد” وهي الأشهر في العراق حتى 8 فبراير عام 1963.
من المتعارف عليه، وكما تُشير أدبيات المؤرخين، أن نشأة الصحافة العراقية تعود إلى يوم صدور أول صحيفة في 15 يونيو 1869، وهي صحيفة “زوراء” التي يُطلق عليها خطأ في كافة الكتابات اسم “الزوراء”، غير أن الباحث العراقي “السيد رزوق عيسى” صاحب مجلة “المؤرخ” أشار في مقالته المنشورة بمجلة “النجم” الموصلية الصادرة عام 1934 إلى أن أول صحيفة ظهرت في بغداد كانت تعرف باسم “جورنال العراق”، وقد أنشأها الوالي “داود باشا الكرخي” حينما تسلم منصب الولاية عام 1816، وكانت تطبع في مطبعة حجرية وتعلق نسخ منها على جدران دار الإمارة. وقال إن هذا ما عثر عليه في سجل الرحالين ومنهم “غروفس” و”فريزر” و”بتلر” وغيرهم. لكن الباحث المعروف “عبدالرزاق الحسني” فنّد ذلك في إحدى دراساته عن الصحافة العراقية بالقول: “ولكننا لم نعثر على نسخة من “جورنال العراق”، لا في المتحف البريطاني، ولا في المؤسسات العثمانية القائمة”.
إذن، يمكن القول، وفقًا لذلك، إن أول صحيفة صدرت في العراق بعد مرور شهرين على تعيين “مدحت باشا” واليًا على بغداد، هي “زوراء” يوم (15 يونيو 1869)، وكانت أسبوعية، وطبعت بمطبعة “زوراء” التي كانت في الوقت نفسه مطبعة الولاية التي قام “مدحت باشا” بشرائها من باريس. وهي صحيفة متوسطة الحجم في ثماني صفحات، أربع صفحات منها باللغة العربية، والأربع الأخرى باللغة التركية. وقد استمرت في الصدور مدة 49 عامًا، غير أنها توقفت في 11 مارس 1917 بعد الاحتلال البريطاني لبغداد.
اهتمت “الزوراء” بنشر أخبار تتعلق بالشئون الداخلية والخارجية بشكل أساسي، إضافةً إلى نشر الفرمانات ومقالات في الشئون الثقافية والسياسية والصحية. كما اهتمت بانتقاد ظاهرة الفساد في أداء الإدارات الحكومية. وتعتبر “الزوراء” مصدرًا تاريخيًّا مهمًّا لتقييم الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في العراق خلال تلك الفترة. وكانت تباع بخمسين بارة، والاشتراك السنوي 55 قرشًا. وتضم “مكتبة المتحف” العراقي حاليًّا ثلاثة مجلدات من صحيفة “زوراء”، وربما توجد نسخ عديدة منها في المكتبات الشخصية.
هذه المقدمة الموجزة أجدها ضرورية في مفتتح الحديث عن الصحافة العراقية، وهي صحافة رائدة على صعيد الموقف والرأي والتنوع، حيث ساهمت في تنوير المجتمع العراقي، باعتبارها معلمًا بارزًا من معالم النهضة الفكرية.
وقد عرف العراقيون الصحافة بأشكالها المختلفة منذ أوائل القرن العشرين، مثل: صحيفة “العرب”، و”الأوقات البغدادية” وكانت تصدر باللغة الإنجليزية، و”الموصل”، و”نجمة كركوك” وكانت تصدر بالعربية، ثم أخذت تصدر بالتركية فقط في كركوك، و”مرآة العراق” بالعربية والإنجليزية في الموصل، وصحيفة “تقدم السليمانية” باللغة الكردية في السليمانية.
وحين استُكملت مؤسسات الدولة العراقية الحديثة غداة تأليف الحكومة عام 1921، بدأت الصحف الحديثة تنتشر في بغداد بشكل أساسي، ومن ثم في البصرة والموصل. ومن بين أشهر الصحف الحديثة التي ظهرت إبان حقبة الحكم الملكي في العراق: “البلاد”، و”الاستقلال”، و”لسان العرب”، و”دجلة”، و”الرافدين”، و”الأمل” وهي صحيفة أصدرها الشاعر “معروف الرصافي”، و”الزمان”، و”الأخبار”، و”الإخاء”، و”الأهالي”، و”الرأي العام” وهي صحيفة الشاعر “الجواهري”، و”الطريق”، و”الأخبار”، و”الكرخ”، “و”شط العرب”، وعشرات غيرها.
وقد أحصى المؤرخ “السيد عبدالرزاق الحسني” عدد الصحف والمجلات التي صدرت بين عام 1908 وعام 1923، فقال إنها: “تسعون مجلة ومائتان وثلاث عشرة صحيفة بين سياسية وأدبية وفكاهية”.
لا جديد في قولي إن للصحافة تأثيرًا كبيرًا على خلق الرأي العام، لهذا أطلق عليها اسم “السلطة الرابعة”، وأيضًا “مهنة البحث عن المتاعب”، لما تحمله هذه المهنة من مخاطر في عملية جمع الأخبار لنشرها. وعلى الرغم من تقدم وسائل نقل الخبر، الذي ابتدأ بالإذاعة ثم بالتلفاز وحاليًّا الإنترنت؛ إلا أن الصحف ما زالت تحافظ على مكانتها في رصد حركة التاريخ.
ورغم تعدد مصادر كتابة التاريخ، أجد أن الصحافة تُعتبر مصدرًا هامًّا للتأريخ، فهي سجل يومي لتطور دينامية المجتمعات بحكم متابعتها اليومية للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية. والدول التي شهدت تأخر ظهور الصحافة وعدم تطورها تفتقر لمصدر هام في معرفة تفاصيل تاريخها، ووقتها يجد المؤرخ نفسه يميل إلى تأويل الأحداث لتغطية فجوات ناتجة عن الفراغ في المعطيات والمعلومات.
وهنا، أُشير إلى موقف عشته شخصيًّا يهم المجتمع العربي برمته، يبيّن الدور الكبير للصحافة العراقية في حقبة مهمة في التاريخ العربي المعاصر، وأعني به ما اصطُلح عليه (يوم النكسة) الخامس من يونيو عام 1967. فقبل اليوم الذي شهد العدوان الإسرائيلي، نبّهت صحيفة “العرب” البغدادية قبل يومين من بدء الضربة الإسرائيلية في مقال نشرته للخبير العسكري المرحوم “محمود شيت خطاب”، إلى أن العدوان سيحصل في الساعة واليوم الفلاني. وهذا الموقف الصحفي العراقي ظل طي النسيان. وأسرد بعض تفاصيله هنا لإطلاع مَن يهمه الأمر في التاريخ السياسي والعسكري والصحفي العربي.
وسط فوضى التصريحات والتنظيرات التي سبقت عدوان الخامس من يونيو عام 1967، كانت هناك صحيفة عراقية تصدر ببغداد، في ثماني صفحات، وعدد العاملين فيها ستة (إدارة وتحريرًا) هي صحيفة “العرب”، وكانت تنشر على صفحتها الثالثة يوميًّا سلسلة دراسات عسكرية، اعتبارًا من العشرين من شهر مارس 1967، تحت عنوان “حرب أم لا حرب” بقلم اللواء الركن “محمود شيت خطاب”، وكان (كاتب هذه السطور) مكلفًا من رئيس تحرير تلك الصحيفة بجلب تلك المقالات.
وقد تعوّد الكاتب “خطاب”، الذي ودّع الدنيا في عام 1999، وفي رأسه خزين هائل لا يُقدر بثمن من المعلومات والقراءات للفكر العسكري الإسرائيلي؛ أن يهيئ ثلاث مقالات في كل مرة، بحيث يكون تحت يد رئاسة التحرير مقالان، عدا المقال المنشور، وهكذا استمر الحال.
وفي يوم الخميس 1 يونيو 1967، والخميس يوم عطلة الصحيفة، حيث جرت العادة ألا تصدر الصحيفة يوم الجمعة من كل أسبوع. في ذلك اليوم جاءني الزميل “مظهر عارف” وكنا نعمل معًا في “العرب” إلى البيت عصرًا، بينما كنت على وشك الخروج. لقد استغربت زيارته في ذلك الوقت، لكنه طمأنني قائلًا إن رئيس التحرير طلب أن أذهب إلى بيت اللواء الركن “محمود شيت خطاب”، وسألته مستغربًا: لماذا؟ فأنا جلبت مقالاته للأيام الثلاثة القادمة (3، 4، 5 يونيو)، فأجابني بأنه لا علم لديه، ربما كوني الوحيد الذي يعرف سكن اللواء “خطاب”.
وجدتُ اللواء الركن واقفًا عند باب داره، وصاح قبل أن أُلقي عليه السلام بصوتٍ لم أعتده منه: هل بإمكانكم إصدار الصحيفة غدًا الجمعة؟ قلت له: لا أعتقد.
طأطأ رأسه، ثم أردف قائلًا بصوت حمل نبرات حشرجة واضحة: خذ هذه المقالة معك، وسلّمها غدًا، لتنشر يوم السبت، بدلًا عن المقالة الموجودة لديكم.
وقد لاحظت أن المظروف كان في هذه المرة مغلقًا، لكن دون إحكام.
ودّعت الرجل الذي زادت حمرة وجهه، وبانت عليه ملامح القلق واليأس، وحملت المقالة تاركًا كاتبها في لجة الألم والاضطراب، دون أن أعرف سبب قلق الرجل. لم أتكهن بأن المقالة التي أحملها تتضمن (سرًّا) خطيرًا لا يعرفه الملوك والرؤساء العرب ولا قادة ورؤساء أركان الجيوش العربية، لقناعتي بأن الصحف العربية محظور عليها تناول الشأن العسكري بصورة مباشرة أو غير مباشرة!
وفي الليل الساكن في حضن السماء وفي هزيعه الأخير، دفعني الفضول إلى فتح المظروف برويّة وأناة لقراءة المقال الذي أراد كاتبه أن يُنشر سريعًا. يا إلهي، المقال يُحذر بصورة أكيدة ومؤكدة من أن العدوان الإسرائيلي واقع لا محالة يوم الاثنين 5 يونيو.
أعدت القراءة مرة ثانية وثالثة، وتوجهت إلى مذياع البيت القديم، نوع (تلفونكن) ذي الموجات الست، باحثًا من خلال مؤشره عن خبر أو تعليق حول الموضوع. إذاعة بغداد صامتة، وإذاعة “صوت العرب” تعيد مواجيزها السابقة، فيما إذاعة “إسرائيل” تبث أغنية “انت عمري” لأم كلثوم!
في الصباح، حين وصلتُ إلى الصحيفة، حملت مقال اللواء “خطاب” إلى مدير التحرير الأستاذ “شاكر التكريتي”، ثم بعد برهة توجه مسرعًا إلى غرفة رئيس التحرير، ثم خرج الاثنان دون أن ندري وجهتهما، وعلمت لاحقًا أن الرجلين تَقَاسَمَا الأدوار: رئيس التحرير توجه لرؤية الرئيس “عبدالرحمن عارف”، و”التكريتي” ذهب إلى قريبه رئيس الوزراء “طاهر يحيى”.
ولم يمضِ من الوقت سوى ساعتين، عاد “التكريتي” حاملًا معه خبرًا يقول إن الفريق “يحيى” اتصل باللواء “خطاب”. وفي ضوء هذا الاتصال، قرر المغادرة فورًا إلى القاهرة للقاء الرئيس “جمال عبدالناصر” وقادة أركانه.
وفعلًا غادر الفريق “يحيى” إلى القاهرة، لكن الأخبار جاءت مساء من مقر إقامته في فندق “شبرد”: إن رئيس وزراء العراق لا يتوقع نشوب الحرب!
صدرت صحيفة “العرب” يوم السبت 3 يونيو، ولم يكن فيها المقال (النبوءة) للواء الركن “محمود شيت خطاب” الذي يؤكد أن إسرائيل ستشن الحرب 5 يونيو، وتجرأتُ فسألتُ عن سبب عدم النشر، فقال مدير التحرير إن الرئيس “عارف” ورئيس الوزراء “طاهر يحيى” طَلَبَا التريث في نشره للتشاور مع القادة العرب!
وهنا تفوقت غريزةُ الصحافة والسبق فيها على دعوات السياسيين، فأمر مدير التحرير بالاتفاق مع رئيس التحرير، على نشر المقال (النبوءة) يوم الأحد 4 يونيو، في عدد الصحيفة المرقم 856، في وقتٍ كان كاتبه قد طلب نشره قبل ذلك التاريخ بأيام، لكنه نُشر على أية حال، وبذلك فاقت الصحافة كل صحف ومراكز الأبحاث العربية والعالمية بشأن العدوان.
كانت الصحافة العراقية تقرأ ما خلف الأحداث، ولم تلهث وراءها، وقدمت للأمة نموذجًا هو وجود صحيفة عراقية جريئة تنشر مقالًا لم يوافق على نشره رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وهذه الصحيفة هي “العرب”.
هذه هي إحدى صفحات تاريخ الصحافة العراقية. لقد كانت على مر العصور مثل صائحٍ في واد، ونافخٍ في رماد!
إن ذِكري لهذه الواقعة الصحفية التي لا تخص العراق وحده، وإنما العرب والعالم؛ تبين علاقة التاريخ بالصحافة باعتبارهما من المواضيع التي تشد انتباه واهتمام المؤرخين والباحثين في علوم الإعلام، وتطور الكتابة التاريخية نحو التخصص الموضوعاتي، حيث لم تعد كتابة التاريخ كلاسيكية قائمة على سرد الأحداث الكبرى، بل تحاول التأريخ للمجتمع في شموليته. وعلاوة على الأحداث الكبرى، يجري رصد المنعطفات العسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبقدر ما تلعب الدور المكمل لفهم التغيرات التاريخية، بقدر ما تكون -في حد ذاتها- عملية تأريخ لمجالات عدة، لا حصر لها.
إن تقنية التركيب التاريخي عبر “تبويب التاريخ” وفق مواضيع، ليست بالتقنية الجديدة، بل هي نسخ للتبويب المعمول به في الصحف. فالصحيفة بتبويبها هي سجل يومي لأحداث المجتمع في كل صوره.
ويقول “بول جونسون” الذي مارس الصحافة، ثم انتقل إلى التأريخ، إن هدف الصحافة والتاريخ أن ينقلا للقارئ المعرفة والمعلومات ومحاولة شرح الأحداث. لا يمكن القول أين ينتهي عمل المؤرخ وأين يبدأ عمل الصحفي”.
وفي ضوء الفارق الزمني في رصد الأحداث، فالصحفي يؤرخ للحظة، والمؤرخ للحقبة.
مجلة الجسرة الثقافية – العدد 57 – شتاء 2021