«جورنيكا».. لوحة الحرب التي أشاعت السلام

الجسرة الثقافية الالكترونية –
الكل يعرف الموناليزا لكن القليل جدا يعرف جورنيكا. لوحة السيدة المبتسمة في اللوفر الفرنسي للرسام الإيطالي ليناردو دافنشي أصبحت جزءا من صورة العالم، والابتسامة الساحرة علامة لا يخطئها اليوم أحد، أما غيرنيكا فهي أيضا أحد أهم الأعمال الفنية على مر التاريخ، إنها جدارية الرسام الاسباني المعروف بيكاسو، اللوحة هي وليدة الحرب الأهلية الإسبانية بين القوميين والجمهوريين، استوحاها الفنان من قصف القوات الألمانية والإيطالية المؤيدة للقوميين لمدينة غورنيكا الإسبانية، العمل الذي رسمه بيكاسو عام 1937 بعد أقل من عام على اندلاع الحرب في وطنه، وأنجزه بأسلوب التصوير الزيتي، أخذ اسمه من المدينة غورنيكا التي أصبحت العاصمة الروحية والتاريخية لبلاد الباسك في إسبانيا.
اللوحة التي أصبحت رمزا للسلام هي من أشهر أعمال القرن الـ 20 وأكبرها حجما. قصتها بدأت عندما دعت الحكومة الفنان بيكاسو المقيم في باريس للمساهمة في الجناح الإسباني في المعرض الدولي واعتذر عن ذلك لاعتبارت فنية وذاتية تخشى التورط في أي مناسبات سياسية ورسمية، لكن الرفض والتردد من قبل الفنان انتهى خلال أشهر محدودة عندما قصفت المدينة بشكل وحشي يذكر عنه أنه أول قصف جوي لمدينة آهلة بالسكان ومحرومة من أي قدرة دفاعية، انفعل الفنان بالمجزرة التي ألقي فيها خمسون طنا من القنابل الحارقة في السادسة والنصف صباحا، والتي عجز الإطفائيون أمامها فقضت على 70 في المائة من المساكن.
مشغل بيكاسو في باريس تحوّل إلى ملتقى للعديد من الفنانين والشعراء والكتّاب أثناء رسم اللوحة بتحريض من “أندريه مالرو” المثقف الملتزم مع قضية الجمهورية الإسبانية حيث اتصل بالعديد من هؤلاء في محاولة لتشجيع بيكاسو في سباقه مع الزمن للمشاركة في المعرض. وما أن انتهى الفنان من لوحته حتى شعر بأن شيئا ما ينقصها لا يعرف ماهو، فسواد اللوحة ورماديتها أثار في نفسه شيئا من الهذيان بعد العمل السريع والمحموم، وقبل أن يتم نقلها إلى الجناح الإسباني في المعرض الدولي اتصل بكل أصدقائه الذين عاشوا خلقها وطرح عليهم فكرة تلوينها، وعلى الرغم من احتجاج معظمهم لأن اللوحة في شكلها الحالي كانت في رأي أصدقائه ومؤرخيه من أنضج أعماله على مدى تاريخه، لكن بيكاسو أصر على التلوين وبدأ بتلصيق ورق الحرير الملون على اللوحة كبيرة الحجم، موزعا مهمة القص واللصق على هؤلاء الأصدقاء المحتجين والذين عزو فعله هذا لتدهور في قدراته العقلية. وعندما انتهت المهمة اقتنع بيكاسو بعدم جدوى التلوين وتراجع عن تلك الإضافة التي وصفها بيرجامين بأنها حولت اللوحة من عمل فني مرهف الحس يعكس مأسي الحرب وشرورها إلى عمل يشبه إعلانات “السيرك” الشعبية المتجولة، فتم نزع كل تلك القصاصات الملونة إلا واحدة حمراء صغيرة كانت هي الدمعة المنتشرة على شخصيات لوحة غيرنيكا.
تحولت لوحة الحرب إلى رمز ضد الفاشية والنازية في وقتها، وتصدرت مكانها في الأمم المتحدة، و أثارت حينها إشكالا أثناء الحرب على العراق عندما نقل عن الوكالة الروسية نوفوستي خبر تغطية اللوحة برداء أزرق، برره المسؤولون هناك بموقع اللوحة الذي تقام أمامه التصريحات الإعلامية والنقل التلفزيوني ومناسبة اللون الأزرق لهذه التغطيات، بينما ثار الكثيرون باعتبار الحركة انتصارا للحرب بدلا من السلام الذي تحمله غيرنيكا. طافت اللوحة كثيرا من دول العالم، ورغم أن ذلك أثار قلق الفنان على عمله الضخم والصعب التركيب والتفكيك، إلا أن غيرنيكا حملت رسالتها النبيلة في كل مكان، وهي اليوم معروضة في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون في مدريد.
اللوحة الجدارية الكبيرة ذات الثلاثة أمتار عرضا وأكثر من سبعة أمتار طولا، يرى فيها مشهد ذعر وألم وبلبلة يحيط ببعض الناس أثناء الاعتداء الوحشي عليهم. في المشهد هناك من يصرخ ومن يبكي ومن يستغيث ومن يحاول الهرب، قتلى على الأرض وامرأة تضم طفلا وتصرخ، استعمل بيكاسو أحد أهم الرساميين التاريخيين في عمله بعض الرموز التي تدل على الحرب كالسكين والحصان، بينما الثور جاء رمزاً للهمجية والعنف الممارس في الحروب. ومما يلفت النظر في اللوحة العظيمة أنها رسمت باللونين الأبيض والأسود إشارة إلى سوداوية الحرب وبشاعتها، كما أن الرسام تخلى عن رسم الجنود المعتدين وسلّط الضوء بدل ذلك على الأهالي، على الأبرياء والأطفال ضحايا أي عدوان يمارس مهما كانت جنسية المعتدي ومهما كانت دوافعه. بيكاسو الكبير الذي رحل عن الحياة في عام 1973، الفنان التشكيلي والنحات الإسباني صاحب المدرسة التكعيبية في الفن، ترك لنا أعمالا خالدة، وشكل حلقة كبرى في تاريخ الفنون، قال عن الفن إنه يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية، وقال عن الرسامين بعضهم يحولون الشمس إلى بقعة صفراء، والبعض الآخر يحول البقعة الصفراء إلى شمس، وأن كل شيء يمكن أن نتخيله هو حقيقي بالنسبة لنا، وهو يعمل دائما مالا يستطيع عمله لكي يتعلم كيفية عمله، وعن الرسم قال هو طريقة أخرى لكتابة المذكرات، وأن كل طفل فنان، المشكلة، فقط، كيف يظل فنانا عندما يكبر؟
#الاقتصادية